
كان شاباً يافعًا طويل القامة… عريض المنكبين …مربع الوجه ..عريض الجبهة عسلي العينين ….أشقر الشعر …دائم الابتسام… شجي الصوت ..
كان وسيمًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى….
و عندما يطلق لحيته الشقراء كانت تلتف حول وجهه لتزيده بهاءً و وقارًا …و يصبح كالليث و تتلألأ عيناه العسليتان بذلك اللون الكهرماني الجميل … كان ثاقب النظرة عندما يغضب … و تصبح نظراته حادة عندما يفكر … و تنقلب حانية عندما ينظر الي … انا ابنة اخته الصغيرة … كان دائمًا ما يحملني و يدور بي …فأشعر كأنني دمية صغيرة … و ما أن ينزلني و ضحكاتي تتطاير هنا و هناك حتى يفتح كفه ليعطيني قطعة الشوكولاته التي أحبها …
فقد كان أجمل من وسامته هو خُلقه فقد كان طيب القلب …حلو المعشر، كريم النفس..كريم اليد أسدي التعامل …نعم أسدي …فقد كان عادلًا … …شُجاعًا …مسؤولًا … واثقًا بنفسه و مُجابًها لكل الظروف …
لم يُكمل دراسته ليس لتقاعسه أو كسله …ولكن ليَسُدَ رمق أسرته بعد أن توفي والده و تخلى الجميع عنهم….
مع انه لم يكن الأخ الاكبر ولكنه كان الأكثر إحساسًا بالمسؤولية….رفضت أمه تركه للدراسة…
ولكنه أبى وأصر على قراره وطلب منها أن يتابع اخوته دراستهم، وانطلق هو ليَشُقَ الصخر ويخرج منه قطرات ماء تروي ظمأ أسرةٍ تتكون من ستة أفراد….
لم يترك عملًا إلا وجربه رغم صغر سنه آنذاك….
تعلم عدة مهن و سافر و تغرب…عاش تخلي الأقرباء و جفاء الغرباء … عاش الظلم و الافتراء …عاش الخوف و الخذلان …عاش الصعب وكان كل يومٍ في امتحان ….
رغم ذلك كان يُعطي بسخاء …كأنه من الأغنياء ..أعطى الجميع بلا استثناء…
صَقلته الحياة بل جففته بالمعنى الأصح كل شيء فيه كان جافًا بشرته شعره يديه كل شيء إلا ذلك الجزء الصغير الذي بقي غضًا طريًا بقي كما كان كأنه قلب طفل صغير….
ذلك الطفل الذي ترك المدرسة وترك قلبه أيضا في ساحتها يلعب مع الأطفال….
سار وحيدًا دائمًا لانه لم يسمح لأحد أن يشاركه شقاءه ….
سار سعيدًا …رغم تعبه …رغم ألمه…لان أقدامه العاريه عبدت الطريق لإخوته…
لأن يديه المشققة أعطت المال لأمه…
ظل كذلك إلى أن إعترضت طريقه (رمزية) نعم كان اسمها (رمزية) ولكن كان يجب أن تُسمى جورية كانت وردة حقيقية …تلك الفتاة الرقيقة..
بذلك الوجه مستدير و الخدود المتوردة بحمرةٍ دائمة و أهدابها الطويلة التي تحرس تلك العيون المكحلة…
و بشرتها الحنطية المتلونة التي تتلون مع ما ترتديه أحيانا تصبح سمراء و أحيانًا بيضاء وتعود أحيانًا حنطية..و شعرها القصير الملتف حول وجهها …بذلك الخصر النحيل وذلك الثغر الجميل…
عندما يراها كانت تشرق عيناه… وتعبر الابتسامة قسمات وجه ..ويشعر بأن القدر قد أعطاه فسحة من السعادة عندما سمح له بالتعرف عليها…
أحبها وأحبته ….
أحبها بصدقٍ واخلاص كيف لا وهو الذي لم يعرف غيرهما في حياته...
سمح لنفسه أن يُحب …
لانه أعتقد أن هذا من حقه …
بعد أن أكمل اخوته دراستهم …وبدأ كل منهم يشق طريقه…
ظن أنه هو أيضا يستطيع أن يُفكر بنفسه ولو لمرة …
و أن المحارب آن له أن يستريح في حضنٍ دافئ …. أن ينزع درعه و يدع ذلك القلب يخفق كما يريد …
أن يدع تلك الروح تُحلق بفضاء حبه لها …أن يعيش سعادة حُرِمَ منها …بل لم يُعطِ نفسه الحق ليعيشها من قبل…
بكل ما يملك اشتري لها خاتم ليُخبر العالم أنها سيدة قلبه…
وكانت هي أسعد فتاة في الدنيا ….لأنها لا تريد من الحياة سواه…
كانت راضية بكل ظروفه… بشرط أن تكون هي قِبْلَةَ روحه …بشرط أن يحتضنها قلبه… بشرط أن يصبح حارسها و حبيبها…
في خضم كل هذا .. سقط فجأة في ذروةِ سعادته …سقط ذلك المهيب وقع على الأرض …كجلمود صخر حطه السيل من علي….
عندما سقط كانت رمزية بصحبته ….لم تعرف ماذا تفعل؟ أ ترفعه أم ترفع قلبها الذي سقط قبله…
حاولت ولكنها لم تستطع رغم طولها كانت تبدو ضئيلة أمامه
افترشت الأرض و ضمته إلى صدرها …
كانت عادة تخجل أن تلمسه… ولكن مع نوم تلك العينين العسليتين …تستطيع أن تضمه بقوة…. أن تمسح على شعره …أن تلمس وجهه… و أن تهمس باذنه كم تحبه…
رغم خوفها عليه …..الا أنها تمنت لو يتوقف الزمن عند هذه اللحظة ….وهو نائم بين ذراعيها كطفل صغير… و كسند كبير……
ظن أنه قد يكون متعبًا أو مرهقًا … و آفاق و هو يبتسم….
إلا أن سقوطه توالى لأكثر من مرة ..
فعرف أن هناك خطب ما …وليس فقط خطب ما …بل كارثة ما…
قلبه الصغير بقيَّ غضًا ولكن عقله الذي كَبُرَ قبل أوانه وحمل همًا قبل أوانه ، مَرِضَ أيضا قبل أوانه...
و عندما جاءت نتائج فحوصاته خرج الطبيب ليلقي علينا جملة مقتضبة تنسف كل أحلام الدنيا :
(مرضٌ عضال) ما أقصرها من جملة وما أقصره من عُمرٍ بعده… و ما أقصى ما سيعيشه صاحبها….
علم أن نهايته وشيكة، فلملم شتات نفسه وحمل خاتمه و قال لها( كل شيء بينا انتهى)
رفضت،صرخت، بكت، توسلت إليه أن تبقى بجانبه، أن تعيش معه و لو يومًا واحدًا….
و لأول مرة بحياته بكى، ليس خوفًا من الموت …
ولكن لانه عَلِمَ أنه سيموت ببطء …و سيفقد كل شيء ببطء حبه، شبابه، وقوته، وحتى إدراكه….
قال لها: أنا احتضر
لو أنني سأموت وأنا بكامل قوتي لا يهمني ….ولكن الطريق طويل لن يتركني هذا المرض الا وأنا حطام إنسان…
تركها و ترك معها كل شيء حلمه ….سعادته ….عرينه…
خضع لعدة عمليات و لعدة علاجات و لعدة سموم تدخل جسمه فتُحرق ما تُحرق وتقتل ما تقتل ….
لم أعد أرى شعره الاشقر ….لانه اصبح دائما ما يعتمر تلك القبعة السوداء….و لم يعد يبتسم…و لم يعد ذلك اللون الجميل الى وجهه…
كان يموت بيننا…
و رغم كل شيء كان يحارب …كان متمسكًا بالحياة ليس حبا بها… بل لأنها سلبته كل شيء …طفولته …سعادته وحبه …والآن تريد أن تأخذ روحه أيضا….
لم يندم يومًا على كل ما فعله .. و لم يَلُم أحدًا… و لم يحزن على ما أصابه …
كل ما كان يؤلمه هو أمه…لأجلها لم يستسلم
وظل يُحارب حتى أخر رمق…
ليست الحرب غريبة عليه …فقد حارب طوال عمره …
و لكن هذه المرة … كان يُحاربُ نفسه ….أصعب ما في الدنيا أن يكون عدوك يسكن بين ثنايا جسدك …بين ضلوعك …يُحصي أنفاسك …يسمع نبضات قلبك… يُبعدك عمن تُحب…و يستأثر بك لنفسه…يَطربُ لألمك …و يسلبك روحك شيئًا فشيئًا….
وفي يوم صيفيٍّ هادئ أطبقَ جفنيهِ على أجمل عينين عسليتين رأيتهما في حياتي.
أطبق عليهما ليرتاح ذلك الفارس الشجاع …و يسلم سيفه و درعه وينزل عن صهوة كفاحه….
نام ذلك الليث … و لم يصحُ مجددًا
رحمك الله يا خالي …تستحق دعائي سبحان من زرع حبك فينا وجعلنا نتذكرك دائما وندعو لك…
عزائي ، أننا جميعًا كَبُرنا … و أنت مازلت كما أنت …
ذلك الشاب الوسيم أشقر الشعر دائم الابتسام ….عسلي العينين…
ستبقى قدوتي …و أسدي …و رفيق روحي …
و ستبقى تسكنُ القلب …حتى لو سألت عنك العين ….