لم نفهم شيئا عندما دخل أبي إلى البيت ضاحكًا فيما كانت أمي منخرطة بالبكاء!
قالت أمي: طبعا إنت مش فارقة معك، أنا اللي حنفضح بين القرايب والجيران!
لم يجبها أبي واستمر في الضحك.
تعود هذه القصة إلى 45 عاما عندما حملت أمي حملا غير مخطط له بأخي الصغير، كانت تبلغ من العمر أربعين، ولها ستة بنات وبنين، أكبر إخواني شاب في العشرين، وأصغر أخواتي كان عمرها سبع سنين.
شعرت أمي بالحرج من الحبل والولادة بعد الأربعين، وخشيت على الجنين من التشوهات أو الإعاقات لما تعلمه من خطورة الحمل في هذه السن، خاصة أنها كانت تعاني من ضغط الدم.
لازم الحزن أمي وتمنت أن يسقط الحمل قبل انتفاخ بطنها، لكن إرادة الله غالبة؛ فقد ثبت الحمل واستقر.
مرت أشهر وتحسّن مزاج أمي، عرفتُ ذلك لأنها عادت للغناء أثناء أدائها الأعمال المنزلية، ولأنها عادت لصنع الحلوى لنا كما كانت تفعل دائمًا.
كانت فرحة عارمة في بيتنا وتهلل وجه أبي بشرًا عندما أكدت الطبيبة لأمي أنها تحمل ذكرًا.
لا ينام ولا يُنيم
وُلد أخي زيد بصحة ممتازة، لكن البيت انقلب رأسًا على عقب بعد ولادته، كان لا ينام ولا يُنيم لكثرة بكائه، ولا أدري إن كان لرفض أمي الحمل وحزنها في بداياته علاقة بالمزاج العصبي لزيد!
الأمر لم يقف عند وصلات البكاء الطويلة بل كان ينتهي أحيانًا بنوبات تشنج، وكانت تلك النوبات بمثابة كوابيس رعب لأمي، أذكر بأن زيدًا أصيب بنوبة تشنج وكان أبي في عمله، فحمّلتني أمي زيدًا لترتدي حجابها على عجل، كان مثل لوح من خشب، نزلنا إلى الشارع مهرولين إلى أقرب مركز طبي، ظننت يومها أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، لكن الله سلّم فتعافى من النوبة قبل وصولنا للمركز.
مثل غيره من الأطفال قلّ بكاء زيد تدريجيًا مع مضيّ الأشهر، ربما لأنه وجد طرقًا أخرى غير البكاء للتعبير عن نفسه، كما تباعدت نوبات التشنج إلى أن اختفت تمامًا.
ورغم هذا التحسن في المزاج إلا أن زيدًا ظل يعاني لسنوات من ضعف في مناعته ونزلات حمّى متكررة، وكان قليل الشهية للطعام ويعاني من حساسية مفرطة من البيض؛ ساهمت تلك العوامل في اعتلال صحته، كما ساهمت المضادات الحيوية التي كان يسرف الأطباء في وصفها في نخر أسنانه اللبنية واسودادها.
تلك الصعوبات الصحية التي عانى منها زيد، بالإضافة إلى شعوره بالوحدة لعدم وجود أخ أو أخت يقاربانه في السن، ولّدت المزيد من الإشفاق عند أبي وأمي، وترجما ذلك إلى اهتمام مفرط بزيد، وانساقا مع رغباته واختياراته في الطعام والشراب والألعاب.
لم يشعر أيٌ منا بالغيرة من اهتمام أبوينا بزيد ولا من تدليله بمن فينا أصغرنا سنًا والتي أطاح زيد بلقبها "آخر العنقود"، بل كنا جميعًا نسرف في دلاله. مع أن أكبرنا الذي كان يدرس تربية الطفل والمرحلة التأسيسية للتعليم أظهر قلقه من الدلال المفرط لزيد، لأن الحياة القاسية لا تدلل أحدًا.
كثيرًا ما كان يُسمع أمي اعتراضاته على الدلال فكانت دائما ترد بمثل شعبي:
إذا جار عليك زمانك، فعليك بابن دلالك! (معناه بأن تدليل المرء لابنه أو ابنته عاقبته حميدة).
آخر أملاك أبي
اشتد عود زيد متفوقَا في دراسته، مستقلا في تفكيره، معتدًا بآرائه يعرف ما يريد.
عند تخرّجه في الثانوية العامة اختار دراسة آداب اللغة الإنجليزية في جامعة خاصة بالأردن، بعد أن استقر الحال بوالديّ هناك.
وفي ظل الصعوبات المالية التي عانى منها والدي فإن أقساط زيد الجامعية مثّلت منذ السنة الأولى عبئا على أبي الذي لم يعد له مصدر دخل منتظم.
اعتبر بعض المحيطين بأبي من الأقارب والأصدقاء بأنه يُحمّل نفسه فوق طاقته، وأن الحل ببساطة أن يتوقف زيد عن الدراسة وينخرط في سوق العمل مثل حال أبنائهم!
راود زيد أبي بالفكرة ذاتها، وأبدى استعداده أن يعمل، رفض أبي ذلك بشدة وقال:
فاتني قطار التعليم وأفنيت عمري في العمل دون فائدة، ولن أسمح بأن تكرر خطئي، فالتعليم سلاح يجب أن تحمله.
اتخذ أبي قراره فباع قطعة أرض صغيرة لا يملك شيئا غيرها، باعها بثمن بخس من أجل تعليم زيد، وكان واثقًا تمام الثقة بأن استثماره لن يذهب سدىً.
أنهى زيد سنتين من دراسته وعادت الأزمة المالية من جديد، هذه المرة زيد هو من اتخذ قراره فانخرط في سوق العمل ولكن دون أن يضحي بدراسته الجامعية، لكنه بالمقابل ضحى بنومه وراحته، فكان يعمل طوال الليل ويذهب لجامعته نهارًا.
لم يكن أبي مسرورًا لكنه لم يملك بديلا، ثم إن التضحية التي أقدم عليها زيد أثبتت لأبي ولنا جميعًا بأنه صلب في وجه المحن، وأن دلاله لم يفسده، فها هو قادر على التأقلم مع الحياة عندما عبست.
حب في أسوار الجامعة
تزايدت الأعباء الدراسية على زيد في السنة الثالثة، واستمر عمله الليلي، وكان أمرًا صادمًا لنا جميعًا أن يجد وقتًا للحب بين مطرقة العمل وسندان الجامعة، كان حبًا عفيفًا وجادًا في حرم الجامعة، وتعاهد المحبان أن يخبر كلٌ منهما أهله بهذه العلاقة وعن نيتهما الزواج عندما يأذن الله بذلك.
خضت نقاشًا مطولا مع زيد حول هذه العلاقة من وحي تجربتي المتعجلة في الزواج والتي أثقلتني بالديون، نصحته بإعادة النظر في التفاوت المالي الكبير بين العائلتين، وفي اختلاف البيئة؛ فزينة من غزة وأهلها مقيمون في السعودية، لكن زيدًا وهو الشاب مستقل التفكير، صلب المراس ظل متمسكًا بحبه.
تميّز زيد عنا بأنه إذا آمن بفكرة فإنه يتخذ كافة الوسائل لتحقيقها، يُتبع الآمال بالأعمال، يعزم على أمر فيمضي فيه متوكلا على الله باذلا ما بوسعه وراضيًا بالنتائج التي كتبها الله دون تذمر.
تخرّج زيد وكانت الوظيفة الأقرب لتخصصه تدريس الإنجليزية، لكن طموحه كان أكبر بكثير من أن ينتهي إلى معلم، وبدأ يبحث عن فرص في الصحافة والإعلام وفي التسويق والمبيعات.
قدّم لشركة محتوى رائدة في المنطقة كمحرر في غرفة الأخبار، مرّ الوقت ولم يتصل به أحد، لم يستسلم بل تمكن عبر بعض العلاقات العامة من تحريك الأمر، فتمّ قبوله براتب وميزات جيدة.
ترّقى خلال ستة أشهر حتى صار مشرفا على التحرير، ثم رئيسًا لقسم الأخبار الرياضية، وكان في الوقت نفسه يقدّم لوظائف خارج الأردن وتحديدا في السعودية حيث تقيم خطيبته.
جسر لتغيير حياتي
ذات شتاء وقفت مع زيد ننظر عبر النافذة إلى عصفور يقف على شجرة مغطاة بالثلوج.
قال زيد: هناك مئات الألوف من هذا الطائر يرزقهم الله في هذا الشتاء القارس ويؤويهم إلى أعشاش، فهل تظن أن الله سيتخلى عنك بعد عودتك مكرهًا من الخليج؟
صدق يقين زيد، فبعد أشهر قليلة يسّر الله لي على يده وظيفة محرر في الشركة التي عمل بها، ولكني لم أزامله، فبعد أقل من شهر حصل على عقد ممتاز في التسويق والمبيعات لشركة أجنبية في السعودية، وكأن الله جعله جسرًا لوصولي وسببًا في حصولي على فرصة غيّرت حياتي برمّتها.
عند سفر زيد اغرورقت عيون أبي وأمي بالدموع، لقد امتزجت دموع الحزن بدموع الفرح؛ أما حزنهما فلأنها المرة الأولى التي يغادر فيها أحضانهما إلى سفر بعيد وغربة لم يعهدها، وأما دموع الفرح فلأنه تعهد بتحمّل نفقات أبوينا معفيًا أخي الكبير من المهمة خاصة وأن ابنه على أبواب التعليم الجامعي.
في وظيفته الجديدة، حقق زيد الأهداف والأرقام المطلوبة فنال استحسان المسؤولين عنه، ولكن الأمر لم يكن بسهولة قراءة هذه السطور، فقد احتاج زيد لتحقيق هذا النجاح المتسارع بذل الجهود الجبارة والمحاولات الدؤوبة، وتجرّع آلام الغربة، وأعمل الذكاء، وأظهر المرونة والمهنية، وأحسن التعامل مع الزملاء والعملاء.
وأضيف إلى ما سبق عامل غيبي لا يقل أهمية، وهو بره بوالدينا وحرصه على إرضائهما وإحسانه إلى إخوته وأخواته.
أمنيات أبي تتحقق
فرحة أبي كانت غامرة لأن الله حقق له أمله أن يرقص الدبكة الفلسطينية في عرس زيد، لقد تم له الزواج بزينة أسرع مما توقع، وأعانه الله فوفّى بعهده لخطيبته وأهلها، وانكشف لنا معدن الناس الأصيل الذي سيزداد لمعانا في ابنتهم مع مرور الأيام.
استضاف أخي زيد أبويّ في جدة بعد أدائهما العمرة، كان لأبي أمنية أخرى، وهي أن يشتري زيد شقة في عمّان؛ كان والدي يريد لنا جميعا أن نكون أفضل حالا منه، وألا نكرر أخطاءه في غربته.
اجتهد زيد في ذلك العام لتوفير الدفعة الأولى للشقة وكان يريد أن يفاجئ أبي بتحقيق تلك الأمنية، لكن المنيّة عاجلت أبي قبل ذلك، فرحم الله أبي رحمة واسعة.
لكن زيدًا أوصل لأبي البشرى بطريقته، فقد كفل عائلات مستورة ووهب ثواب ذلك لأبي، ودفع تكاليف حفر بئر ماءٍ وسقى به فقراء يعانون من الجفاف فأحيى بذلك حياتهم وملأ قبر أبي نورًا وغبطة بتلك الأعمال الصالحة.
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان
عاش زيد في مثلث من الإحسان والبركة؛ الله يوسّع عليه من عطائه فيرتقي في وظيفته ويزيد راتبه وميزاته، وهو بدوره يزيد في التوسعة على أمي والأرحام والأقارب والفقراء والمساكين ويطلب مني أن أدله على المزيد من أعمال البر، فيزيد الله عليه السعة ويزيد ماله ويبارك له فيه، فيرتقي في الوظائف العليا إلى أن وصل إلى مدير للمبيعات، فأصبح بالنسبة لي مثالا حيًا لتحقق وعد الله القائل: "وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُۥ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّٰزِقِينَ"، وتصديقا لقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ".
زاد زيد من العطاء لأمي وأسكنها في شقته، ولأنه يعرف أنها تتأذى من برد عمّان القارس فكان يدفع تكاليف سفرها وإقامتها معظم الشتاء عنده أو عند أخواتي في دولة خليجية حيث يطيب الطقس، ولم تقصده أمي في عمل من أعمال البر وصلة الرحم إلا لبّاها، ومن ذلك أنه قرر بعض الرواتب الشهرية الثابتة لعدد من الأقارب والتي استمرت إلى يومنا هذا، فضلا عن دعمه لبعض بني إخوته وأخواته في الرسوم الجامعية.
لقد كان يقوم بصنائع المعروف دون أن يمنّ على أحد، بل إن الكثير من الأعمال كان يخفيها أو يوصلها بتلطف إلى الناس. ذات مرة وقبل مجيئه في إجازة إلى الأردن أرسل مبلغَا من المال وطلب مني إيصاله لأحد كبار أقاربنا دون أن يعرف أن هذا المال من زيد، قلت له لماذا لا توصله بنفسك عندما تزوره؟ فقال لي: أولا: أنا أشعر بالحرج أن أعطي رجلا في مقامه، وثانيا: فإنه رجل كريم وسيصرّ على دعوتي إلى وليمة، وأنا أعلم أنه رقيق الحال فأحب أن يكون هذا المبلغ بين يديه قبل قدومي!
لقد شرفني الله بأني كنت موضع سرّ زيد في أعمال الخير ودليله على الكثير منها، وكنت من يتحسس له أحوال الناس وأنا من يوصل أمواله إليهم، إحدى تلك القصص التي لا أنساها حدثت في العشر الأواخر من رمضان، فقد طلب مني زيد أن أبحث عن صاحب كربة لانتشاله من قعر اليأس، بمعنى أن نبهر الفقير بالعطاء، وبعد التفكير والتواصل مع جمعية تعمل على إطلاق السجناء الغارمين دلني رئيسها واسمه زيد على شاب مسجون بسبب تراكم الإيجار، وكان الشاب اسمه أيضا زيد، وكنا نسابق الوقت لإطلاق سراح الشاب قبل دخول عيد الفطر وكان لنا ما أردنا، ويالِفرحة أم زيد وهي تعانق ابنها قبل دخول العيد.
وهكذا فإني أرجو الله أن أكون شريكًا لأخي في أجر البر وصلة الأرحام وثواب دلالتي على الخير وسعيي إلى إيصاله لمستحقيه.
زينة وثلاثة أقمار
أعمال الخير والإحسان التي يقوم بها زيد وربما يستقلّها لا يعلم أثرها إلا الله؛ فكم أدخل السرور على بيوت مستورة، وكم فرّج عن مكروب، وكم يسّر على معسر، وكم سهّل سبيلا لطالب علم، وكم أبهر محروما!
زينة زوجة أخي زيد هي شريكة له بجدارة في الخيرات، ذلك أنها لم تخوّف زيدًا يومًا على المستقبل أو تخشى من افتقار بسبب كثرة إنفاقه في سبيل الله على عكس الزوجات، فالكثير منهن يشعرن بالقلق على مستقبل بيوتهن إذا كان رب البيت مسرفًا في الإنفاق، وبعضهن لا يجدن غضاضة أن يسرف أزواجهن في الإنفاق عليهن وعلى عيالهن، لكنهن لا يقبلن أن ينفق القليل على أقاربه أو في أعمال الخير، أما زينة فكانت من القلائل اللواتي احتسبن ذلك عند الله، لقد وجد فيها زيد العون على الخير.
شكرتها ذات مرة على ما يقدمه زيد لبعض أرحامنا، ففاجأتني بإجابتها المتواضعة وشرحت لي نظرتها الإيمانية البسيطة والراقية للموضوع، باختصار فإنها لا ترى فضلا لزيد ولا لها في هذا المال، فالمال مال الله والأرزاق منه وحده، وهو من تفضل عليهما بالتوفيق لعمل الخير والحصول على الأجر، واستعملهما في إيصال ماله ورزقه لعباده!
من البركات التي منّ الله على زيد وزينة بها أنه رزقهن ثلاث بنات كأنهن أقمار في جمالهن وأخلاقهن وإحسانهن.
أذكر أن سيدة طاعنة في السن من أقاربنا، هي على ما عليه مجتمعنا من تفضيل الأولاد على البنات سألت زيدًا وهي تعرف الجواب عن ذريته، ولما أجابها بما تعرف، قالت: جيبلك ولد ينفعك وينفع خواته!
غضب زيد من كلام العجوز وامتعض، ذلك أنه يعلم أنها قسمة الله وحده، وأنّ أحدًا لم يطلع على الغيب فيعرف أن الخير في البنين أو البنات، ويكفي إن النبي- صلى الله عليه وسلم- الذي هو قدوتنا كان أبا للبنات، وهو الذي بشّر كل أب يحسن إلى بناته بمرافقته في الجنة؛ قال- صلى الله عليه وسلم-: "مَن عال ابنتينِ أو ثلاثًا (أي أنفق عليهن)، أو أختينِ أو ثلاثًا، كُنْتُ أنا وهو في الجنَّةِ كهاتينِ، وأشار بأُصبعِه الوسطى والَّتي تليها".
من طلب العلا سهر الليالي
شعر زيد بالقلق على وضعه الوظيفي في ظل التوطين والتنافس المحموم في دول الخليج، ولا شك بأن قلقه شخصي بالدرجة الأولى، لكنه أخبرني أنه يخشى إن خسر وظيفته أن تتوقف الرواتب الشهرية التي يدفعها لخمس عائلات مستورة على الأقل، وأن تتوقف كفالاته للأيتام وصدقات أخرى لا يعلمها إلا الله.
طلب من أمي ومنا الدعاء، ودون أن يخبر أحدًا عاد إلى مقاعد الدراسة للحصول على شهادة عليا تضمن له الاستمرار في الوظيفة العليا.
لقد عاد لما فعله في أيام الجامعة يعمل في النهار ويدرس في الليل، وحصل على ماجستير في إدارة الأعمال بتفوق من جامعة مرموقة.
فرحت أمي وهي تزفّ لنا بشرى حصوله على الماجستير واحتفلنا في بيتها، ولعل هذا الخبر كان آخر عهد أمي بالأفراح؛ فقد مرضت بعدها واشتد عليها المرض، ومع علم زيد بأن مرضها هو مرض الموت، فقد أصرّ على إدخالها مستشفى خاص وتعاظمت فاتورة المستشفى فاضطر إلى بيع ما ادّخره من ذهب لدفع الفاتورة.
ولأنه لا شفاعة في الموت فقد توفيت أمي رحمها الله، وحوّل زيد طاقة الحزن على فقد أحب الناس إليه إلى خير مستمر، فأبقى راتبها الشهري على شكل صندوق تعليمي خصصه لأحفاد العائلة يستعينون به على مصاريف الجامعات، وهكذا فإن الراتب الشهري لأمي انتقل برحيلها من الدنيا الزائلة إلى نور يضيء قبرها إلى يوم الدين.
أجرى زيد وزينة صدقة جارية أخرى عن أرواح أبي وأمي وجدّي زينة، وكان العمل فريدا من نوعه، لأنه أولا يتعلق بسقيا الماء وهي من أفضل الصدقات، ولأنه ثانيًا يتعلق بقطاع غزة المحاصر والمحارب لعشرين سنة، والمشروع هو محطة تحلية ضخمة للمياه شبه المالحة ويسقي حيًا كاملا من أحياء مدينة غزة.
جاء العدوان الصهيوني الهمجي الأخير على غزة ليدمّر هذا المشروع مثلما دمّر سائر وجوه الحياة، لكن إرادة الخير والإعمار والأمل بالله تنتصر دائما على الشر والإجرام.
غزة لن تموت أبدًا بأبنائها وبناتها، فها هي زينة تتبرع من مالها الخاص وتستعين بمال زيد، وتحض الأقارب والمعارف لإغاثة النازحين في غزة يشاركها في هذا الجهد ثلاثة أقمار؛ هن بنات ذلك البطل الذي أعيى بصنائعه الرجال، وكان زيدًا للخير باقتدار.