مبروك للفائزين!الجمهور العام
شكرًا على مشاركتكم. أنتم أبطالنا!
الأردن|الجمهور العام
الدكتور نادر... هذا خالي، فليُرني كلٌّ خاله
غادة الصقور
تأليف غادة الصقور
الدكتور نادر... هذا خالي، فليُرني كلٌّ خاله

"يقول جلال الدين الرومي: لا تترك هذا الصباح ... لا تتركه يمر من غير أن تلقي نظرة على قلبك، فالذين نسوا قلوبهم في الصباحات نسوا شمسهم التي لا تغيب!
هل تدبّرت يوما قول الله تعالى: "وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ"؟
تنفّس كما الصبح، واستنشق روائح الخبز المحمص، والقهوة المغلية، والشاي المعطر، التي تداعب أنفك وأنت تسلك طريقك صباحًا قاصدًا غايتك اليومية.
ما رأيك عزيزي المستمع أن تبدأ صباحك بابتسامة؟ فالسعادة قرار، والابتسامة صدقة.
جرب أن تبتسم في وجه كل من تراه، وستراها كالعدوى في وجوه من تقابلهم.
صباح الخير"
* * *
تصفيق حاد من الزميلات والزملاء بعد تجربتي لأداء برنامج صباحي ضمن دورة "الدوبلاج والتعليق الصوتي" والتي عقدها معهد الجزيرة للإعلام في إسطنبول.
قالت مشرفة التدريب أمام الجميع:
- "برافو" غادة! ولا غلطة!
رقص قلبي طربًا بذلك الإطراء، وارتفع منسوب مشاعري الإيجابية؛ فأوصلني إلى عنان سماء إسطنبول التي احتفلت معي بصفائها، ومع زرقة البحر تم إغوائي بالكامل، فجلست قبالة البحر أحتفل بإنجازي.

وصلني على هاتفي مقطع فيديو لتجربة الأداء، وأضافت الموسيقى الرشيقة على جماله جمالا، أرسلت المقطع من فوري لزوجي وأولادي إلى مجموعة عائلتنا على (واتس اب)، ثم أرسلته لمجموعة إخوتي وأخواتي، هممت أن أرسله لخالي نادر، لكن بناني لم تطاوعني؛ فرغم أني امرأة في الخمسين إلا أنني أهاب خالي ولا أتجرّأ على التبسّط معه في التعامل، تذكرت معانقاتي ومشاغباتي له ذات مرة وأنا طفلة، فوددت لو أني لم أبرح طفولتي بتلقائيتها وجرأتها، وقع ذلك في صيف عام 1987 في الكويت، عندما هُرع خالي من الأردن بعد وفاة أبي في حادث سير، ليلة مجيئه قرّعتني أمي لإصراري على النوم إلى جانبه فزجرها وقال عبارة لا أنساها: "أنا كل جيتي للكويت كرمال غادة وهالة!".
خلال أيام العزاء بوفاة والدي لم أدرك أبعاد المصيبة التي نزلت بساحة عائلتنا، وبعد انفضاض المعزّين وعودة خالي إلى الأردن بدأت بتجرّع ألم فقد أب حنون عطوف، ووجدت نفسي في وادٍ سحيق من الفراغ والعدمية، ولكن بعد أقل من شهر حدث شيء مثير جدًا، لقد تلقيت أول رسالة بريدية في حياتي، الرسالة كانت من خالي الدكتور نادر!
طلب في الرسالة أن أكتب له عن أخبار العائلة، وعن المدرسة وأحوالي في الدراسة، وحتى عن الأنشطة التي أمارسها في المدرسة، كما طلب مني أن نستمر في المراسلة، قد يبدو هذا الأمر عاديًا، فما الغريب في أن يتراسل خال مع ابنة أخته؟ إن الأمر غير العادي في هذا هو أن يجد طبيب ناجح مشغول بمرضاه وطلابه في كلية الطب بالجامعة الأردنية، أن يجد وقتًا لمراسلة طفلة! كنت أنتظر رسائله التي لم تتأخر بكل لهفة، أكتب له رسائل مطولة، وأخبارًا تافهة، لكنه لم يكن يمل من الرد على كل تلك التفاصيل الطفولية.
توقفت الرسائل بيننا بحكم عودتنا للأردن عام 1991، ومع توقفها انقطع حبل من التواصل بيني وبين خالي، ولم أجد له عِوَضًا في اللقاءات العائلية التي تجمعنا، وبدأت تنشأ في نفسي تلك المهابة التي تمنعني من مبادرته بالحديث، وتحول بيني وبين معانقته مع رغبتي الشديدة في احتضانه.
كنت أرى في قسمات وجهه صرامة، وفي نظراته حدّة، وكان قليل الحديث، وكل تلك العوامل كانت تشعرني بالهيبة منه، لكن الرسائل التي كتبها لي هي أدلة قاطعة أن خالي نادر يخفي خلف صرامة وجهه وحدّة طبعة قلبًا عطوفًا محبًا مهتمًا، لكنه يؤثر التعبير عن حبه واهتمامه بالأفعال لا الأقوال، وبطرق غير مباشرة، وهذا ما فعله معي في العام الذي تقدّمت فيه لامتحان الثانوية العامة (التوجيهي الأردني)؛ فقد عيّن لي ولابنه ولابن خالتي مُدرّسًا خصوصيًا، وكان يمتدح اجتهادي بشكل غير مباشر عبر توبيخ ابنه وابن خالتي بذكر تفوقي واجتهادي رغم اختلاف المناهج بين الكويت والأردن.
لم أخيبه؛ فقد حصلت على معدل ممتاز في التوجيهي قياسًا بالظروف التي مررنا بها، ويوم إعلان النتائج أحضر "كنافة" لبيت جدتي احتفاءً بتفوقي، غير عابئ برسوب ابنه وابن أخته وقال لهما: "غادة تستحق أن نفرح بها، وليس عليها أن تدفع ثمن فشل الآخرين".
في الجامعة أرادت أقدار الله لي الخير بأن درست اللغة العربية وآدابها، رغم أن التخصص لم يكن خياري الأول، لكني مع الوقت ازددت حبًا وانتماءً لأمتي العظيمة وثقافتها العبقرية، وفي الوقت نفسه ازداد إعجابي بخالي الذي كان دائما يسبقني في حفظ أشعار العرب وأيامهم.
لا أدري إن كان خالي يدرك أنه ألهمني السعي الدؤوب والاجتهاد ليس بتشجيعه لي فحسب، بل بقصته التي لم يحدّثني بها قط، ولكني عرفتها من أمي وجدتي "حلوة".
* * *
بعد نكبة فلسطين لجأ جدي أبو نادر وزوجته إلى الأردن؛ ولم يلتحق ابنهما نادر بالمدرسة الابتدائية، وكغيره من اللاجئين ساعد والده في كسب العيش، كان جدي يرى بأن حصول العائلة على عشاء أهم كثيرًا من ترف التعليم، لكن جدتي كانت أعمق بصيرة، ولم تكن مسرورة أبدا ببضعة قروش يضعها وحيدها في يد والده.
"حلوة" اتخذت قرارها واصطحبت نادر إلى المدرسة الوحيدة في وسط عمّان، كان ذلك في مطلع الخمسينيات، اعتذر مدير المدرسة لعدم استيعاب المدرسة للمزيد من الطلاب وقال: "ما في مقاعد للطلاب"، جدتي ذهبت من فورها إلى جارتها "أم فؤاد" وكانت ميسورة الحال، وكيف لا تكون كذلك وعندها خمسة كراسٍ مصنوعة من القشّ؟! قصّت القصة عليها ورجتها أن تعطيها كرسيًا حتى لا يكون للمدير حجة في رفض نادر، قالت لها أم فؤاد: "يا أم نادر خلّي الولد يساعد أبوه أحسنلكم، يعني إذا راح ع المدرسة شو بده يصير مهندز ولا تكتور (مهندس/ دكتور)؟" قالت حلوة: "بإذن الله حيصير أحسن تكتور في الضفة الشرقية والغربية كلها، ولما يتخرّج حيجيبلك طقم كراسي خشب بلوط بدل القشّ"، أخذت أم نادر الكرسي وذهبت إلى المدير وقالت: "هَيْ كرسي يا حضرة المدير، هيك ما إلك حجة!"، ضحك المدير ملء فمه وضحك المدرسون الجالسون، وقال: "والله ما أنا مفشلك.. خلص حنسجّل ابنك عنا".
مع الفقر المدقع الذي عاشته العائلة، كان خالي يدرس ويعمل في الوقت نفسه، درس في بيت الدرج وعلى السطح وفي الشارع تحت ضوء شاحب، كانت أمه تلهمه دائمًا الإصرار على التفوق، قال لأمي بعد وفاة جدتي: "لولا أمي حلوة لانتهيت إلى بائع صحف في أحسن الأحوال".
تفوّق في التوجيهي، وحصل على منحة جامعية في العراق ثم في القاهرة حيث تخرّج طبيبًا، وتعمق في تخصصه بين لندن وجلاسكو، وحصل على لقب بروفيسور في الأمراض الصدرية، لم تنجح كل الإغراءات السخية في اجتذابه للبقاء في بلاد الغرب، وعاد إلى عمّان وطنه الثاني بعد يافا التي عاش أجمل سني طفولته فيها، ظلّ يتذكّر شواطئها الفيروزية التي تجاور بيّارات البرتقال، وكيف كانت تتحول يافا إلى حاضرة العالم فتعجّ بعمال من السودان ومصر واليمن ونجد والحجاز وبلاد الشام، ويغصّ ميناؤها بالسفن التي تنقل ذهبها البرتقالي إلى العالم.
* * *
نجاح الدكتور نادر المهني والأكاديمي لم ينسه أبدًا قضيته كفلسطيني سحب المحتل وطنه من تحت أهله وهم نيام، انحاز نادر مبكرًا إلى الحق الفلسطيني، وكان خلال دراسته في بريطانيا واعيًا لزيف حضارة الغرب ولمكر الصهيونية والمتصهينين، وقد بكى وأبكاني عندما خرج ذات مرة عن صمته وهو يخبرني بقصة أستاذه "ميلر"، المسؤول في الجامعة عن الطلبة الأجانب، الذي كان يروّج أمام الطلاب العرب لحق اليهود التاريخي في فلسطين، ويدعو لضرورة قبولهم بإسرائيل.
دعت الجامعة الدكتور نادر وغيره من الطلاب لحضور مسرحية لشكسبير، كان المسرح يبعد عن لندن أكثر من ساعة، في الرحلة رأى الطرق المعبّدة الحديثة، والجسور والسكك الحديدية، والبُنى التحتية والخدمات الضرورية والكمالية تصل إلى الأرياف النائية، وأمام انبهار بعض زملائه الأفارقة والآسيويين بهذا التقدم كان عليه أن يذكّرهم بأن رفاه مواطني شمال الكرة الأرضية إنما يقوم على إفقار بلدان الجنوب التي يحتلها الإنجليز والفرنسيون وينهبون خيراتها.
وصلوا إلى مسرح شكسبير، وكانت المسرحية تاريخية عن الملك "هنري الرابع" الذي تآمر على قتل ابن عمّه "ريتشارد الثاني"، ولكن الجزء الصادم للدكتور نادر أن "هنري الرابع" عندما أراد التكفير عن ذنبه، قرر قيادة حملة صليبية إلى القدس.
في استراحة على طريق العودة دعا الأستاذ "ميلر" الدكتور نادر للجلوس على طاولته، وبدأ الحديث عن المسرحية بحماسة مفتخرا بتاريخ ملوكهم، والدكتور نادر مطرق في كأس الشاي، ألحّ عليه "ميلر" أن يتحدث، عندها انفجر نادر قائلا:
القدس هي وطني وأنت تتحدث عنها وعن أهلها كقرابين لتكفير ذنوب ونزوات ملك من ملوككم.
أنت تفتخر بدون أدنى خجل بحملاتكم الصليبية التي أبادت مئات الألوف من المسلمين واليهود وحتى النصارى لمجرد أن ملامحهم ليست شقراء مثلكم.
أي عجرفة هذه؟! ملك يريد أن يكفّر عن تآمره في قتل شخص منكم بقتل مئات الآلاف من بلد آخر لم يقترفوا أي ذنب، سوى أنهم ليسوا من بني جلدتكم؟
قال "ميلر": يا صديقي إنه تاريخ مضى!
قال نادر: ليس صحيحًا، فالتاريخ يعيد نفسه، ألم تمنح بريطانيا اليهود حقًا في طرد الفلسطينيين والاستيلاء على أرضهم، ومكنتهم من ذلك؟
ألا تعدّون بلاد غيركم حديقة خلفية تنهبون خيراتها، وتعرقلون نهوضها؟
تغيّر وجه "ميلر" ولم ينطق ببنت شفه.
* * *
بعد هذه الحادثة بأيام كان الناس في العالم كله يترقبون لقاء ملاكمة تاريخيًا بين الأمريكي "سوني ليستون" بطل العالم للوزن الثقيل وبين نجم ملاكمة صاعد عمره 22 عاما، هو الأمريكي "محمد علي كلاي"، كان هذا الشاب قد هزم "ليستون" عام 1964 في الجولة السابعة، وتوقع الكثير من محبي رياضة الملاكمة أن يتكرر السيناريو فيفوز "كلاي"، لكن على الطرف الآخر فإن الكثير من الموتورين لا يتابعون الرياضة للاستمتاع باللعب دون انحياز للون أو دين؛ أحد هؤلاء كان الأستاذ "ميلر" الذي راهن أمام الطلاب بأن محمد علي كلاي سيخسر.
قام الدكتور نادر وقال موجهًا خطابه للطلاب: الأستاذ "ميلر" لا يراهن، لكنه يتمنى الهزيمة لمحمد علي، إنه يفضل أن يفوز ملاكم له علاقة مشبوهة بالمافيا الأمريكية على أن يفوز ملاكم واعد له مواقف أخلاقية، هل تعرفون لماذا؟
سكت الجميع، فأجاب نادر وقال: ببساطة لأن محمد علي كلاي مسلم أولًا، ولأنه أسود ثانيًا.
رد ميلر بغضب وقال: ليس صحيحًا، لقد تجاوزت كل الحدود يا نادر.
عندها خرج نادر من القاعة وتبعه الكثير من الطلاب.
في المباراة المشهودة تمكن محمد علي كلاي من هزيمة "سوني ليستون" بالضربة القاضية من الجولة الأولى، فأقصاه عن عرش الملاكمة إلى الأبد، وصعد نجم "كلاي" لبراعته في الملاكمة؛ فقد كان خبراء الملاكمة يقولون عنه: إنه "يتحرك كفراشة ويلسع كنحلة"، ولكن الناس أحبوا "كلاي" لسبب آخر هو أخلاقياته ومبادئه التي لم يحد عنها يومًا، ومن أبرز مواقفه أنه رفض أداء الخدمة العسكرية مع القوات الأمريكية في فيتنام، فهو يراها حربًا غير أخلاقية لا يجوز لمسلم أن يشارك فيها، ودفع ثمن ذلك بأن صدر حكم بسجنه، وجُرّد من لقبه، ومُنع من ممارسة الملاكمة لأربع سنوات.
* * *
لقد كشفت لي قصة خالي عن إعجابه بمحمد علي كلاي بأنه كان في شبابه رياضيًا يمارس الرياضة ويعشق متابعة الملاكمة، وغيرها من الرياضات. لكن الكثير من اكتشافاتي عن جوانب أخرى في حياة خالي لم أسمعها منه، وإنما سمعتها من أمي أو زوجته أو بمحض الصدفة؛ لقد عرفت من أمي بأنه بكى مثل طفل عندما بلغه نبأ وفاة والدي الذي كان يعدّه توأم روحه، وعرفت من زوجته بأنه في إحدى الحكومات المتعاقبة في الأردن عُرض عليه أن يكون وزيرًا للصحة، فرفض وآثر أن يبقى في خدمة المرضى يخصص يومًا للمرضى الفقراء لا يتقاضى منهم قرشًا واحدًا، وآثر أن يبقى أستاذًا يعلّم أفواجًا من طلاب الطب في الجامعة، وعلى ذكر تعليم الطب فقد جمعت أنا وزوجي بعض المال وأردنا إرساله لإغاثة أهلنا في غزة إبان عدوان الصهاينة على غزة في العام 2014، فنصحنا خالي أن ندفعه لصالح لجنة ترعى طلاب الطب الغزّيين الذين يكملون اختصاصاتهم في الأردن؛ لنكتشف بعد فترة بأنه يقف هو وبعض الأطباء وراء تأسيس هذه اللجنة وتمويلها من أموالهم الخاصة، وعندما دعينا إلى حفل خيري تقيمه هذه اللجنة لتخريج بعض هؤلاء الأطباء؛ وجدنا أن الدكتور نادر يحرص تمام الحرص أن يبقى في الكواليس ويصدّر غيره للظهور وإلقاء الكلمات.
لا زلت أكتشف الجديد عن الدكتور نادر، ساعدني في ذلك زوجي الذي أحب الدكتور نادر واعتبره أبًا له، ولعل الجرأة الودودة التي يتعامل بها مع الدكتور نادر كشفت لي الكثير من جوانب عظمة خالي، وأهمها ذلك القلب الرقيق الذي يهزّه صمود أهل غزة على الحق، فلا يملك إلا أن تفيض عيونه تفاؤلا واستبشارًا بدنو النصر.
في كل مرة نزور الدكتور نادر أسأل نفسي:
متى أستعيد جرأة أيام الطفولة، فارتمي في أحضان خالي وأقبّل يديه وألثم رأسه وخدّيه؟!
هذا خالي، فليُرني كلٌّ خاله.