مبروك للفائزين!الجمهور العام
شكرًا على مشاركتكم. أنتم أبطالنا!
الأردن|الجمهور العام
الحرب و السَلم
Rasha Odeh
تأليف Rasha Odeh
الحرب و السَلم

الحياة خارج المرآة
 
أحب أن أتخيّل ولادتي كمشهد سنيمائي..تقترب الكاميرا تدريجيًا لتأخذ كادر شهقة الحياة الأولى،
 شهقتي ..التي ترافقت مع شهقات كثيرين حولي، 

بعد كل هذه السنوات، لم أعد ألومهم، فالطبيب لم يحضر نفسه لهكذا مفاجأة، وكذلك الممرضات السمروات اللاتي جئن من بلدان آسياوية بعيدة، هنّ أيضًا لم يتحضّرن لهكذا مفاجأة،  إذ كيف تولد طفلة..بلا وجه! 

كلوس آب | Close up

أتخيل ولادتي سنيمائيًا، الكاميرا تصوّر المشهد من علً، وتقترب تدريجيًا من فوق قرص الإضاءة ذي المصابيح المتعددة، ثم تهبط أكثر لتصوّر رؤوس الطاقم الطبي المشرّف على توليد أمي، ولادة طبيعية، ألم معصور على شكل أنين متقطّع ، وكلمات تشجيعية يقولها الطبيب بشكل روتيني ليشجع نفسه، فالألم يشجب الصوت أصلًا. 
تقترب الكاميرا أكثر حتى تكاد تلامس قفازي الطبيب المدمتان ، ثم أكثر لتقترب مني ..ثم تعاود الالتفاق إلى العيون المحلّقة فوقي بدهشة وسأتجرأ وأقول ..بدهشة يشوبها القلق ، دهشة اربكتهم، فتأخر شهيقي، ما جعل أمي تنتفض ..لتراني وتغرق في شهقة هي كذلك..ربما شهقنا سويًا لنبدأ حياة جديدة معا..
كثيرًا ما سرحت بهذا السيناريو سرًا ، أضيف وأحذب بعض المشاهد،وذلك لأن مجيئ للدنيا كانت بالفعل عنوانًا خالصًا للدهشة..
وهي الدهشة التي سترافقني كظل، وسأصاحبها وأخاصمها ..أكرهها حينًا وأنتمي إليها أحيانًا. 

هذا هو اسمي
اسمي رشا، ولدت في واحدة من أيام نوفمبر الباردة من عام ١٩٨١، في الكويت،  لكن "رشا" لم يكن الاسم الذي رافقني، كان على أسرتي الصغيرة حينها،  أبي وأمي وشقيقتي الكبرى، أن يلفظوا حروفًا ثقيلة لشخص آخر ، اسمه إدوارد تريتشر كولينز ، وهو طبيب عيون ولد في نهاية القرن الماضي اكتشف متلازمتي الطبية، فكافآة المجتمع العلمي بتسمية المتلازمة باسمه. 

إدوارد تريتشر كولينز،  هذا هو اسمي الأول ، هذا الاسم الذي لقنّة الأطباء لأمي حرفًا حرفًا، اسم سيرافقني طيلة حياتي، أخيرًا بحثت عن هذا الطبيب على صفحات الإنترنت ، ووجدت صفحة "ويكبيديا " ، كم كان غريبًا أن أجد لمتلازمتي وجهُا آخر! 

فتحت على صورته وسألته : هل تعلم دكتور كولينز  أنك تعد قهوة الصباح معي؟ تجلس على طاولة الغذاء معي؟ رافقتني على دكة الدراسة ؟  وفي أسفاري التي خضعت فيها لساعات طويلة في غرفة العمليات علّني استأصل اسمك واتحرر منه، ليعود اسمي رشا خالصًا. 

في التعريف الطبي يعني اسم  إدوارد تريتشر كولينز : اضطراب وراثي يتميز بتشوهات في الأذنين والعينين، وعظام الوجنتين، والذقن. تختلف شدّة المرض عند المصابين من خفيفة إلى شديدة. 

هكذا تعرّفك الصفحات الطبية على الإنترنت ،  أما أنا فأعرفك بـ "اسمي الأول

لعبة الغميضة 

كم هي قوّية أمي ؟ كلما فكرت في وجودي ، وجودي المرهق لي وللآخرين، فكرت في أمي، التي كان عليها أن تراكم إلى جانب آلام الولادة حقيقة وجودي، افكر في فرحتها التي كُسرت كآنية خزف ، أتخيلها وهي تتصالح مع فكرة عيوني التي لا تشبه العيون وهي تحدق بهم ، وأتخيلها وهي متأهبة  لشرح طويل عن حالة طبية تعود لشخص آخر عاش قبل مئة عام من ولادتي، وأتخيلها تبتلع عنوّة نظرات الناس المشوبة بخليط من الشفقة المغلفة بالاشمئزاز من النظر إلى كتلة اللحم الملفوفه في قماش ناعم عابق ببودرة الأطفال حديثي الولادة. 


أمي التي زمت أيامها ومشاويرها وتفكيرها لتجعل مني مشروعها الخاص،  أمي التي كان عليها أن تثبت للجميع أن حالتي خارجة عن نص رحمها ، أنجبت شقيقًا من بعدي.

كان عليها أن تعيد تشييد المنزل، تضبط خيوطه على نحو لا يجعلني أشعر أني أقل، فلعبت الغميضة مع الحقيقة، مؤكدة أن زيارتي المكثفة للمشافي ، فقط لأني أعاني مرضًا يشبه اي مرض عارض، فلم تثقل كاهلي الطري بهموم الكبار.. أمي كاذبة ، كذبتها بيضاء مثل كرة من القطن ، ظلت تدحرجها على صعودًا على مدى الأيام ، كذبة بيضاء كحلوى غزل البنات كفلت لي طفولة سوية ..كذبة أني مثل الآخرين سلحتني بها حتى تشحذني لمعارك تنظرني خارج عتبة المنزل..منزلنا الدافئء

الجميلة والوحش  

كان علينا - أنا وأمي - أن ندخل منحدرًا شاقًا بعد وفاة والدي الذي خانه القلب .. وكان عليّ بعدها أن أقفز بخطوات أعلى ، شيء ما في اليتم يعطب الشعور بالطفولة، وكان عليّ أن أتعلم أن المشي منفردة خارج عتبة أمان المنزل، وهنا كانت أولى معاركي مع الرفض ..يكفي أن يكون لديك وجهي ليرفضك الحب ، والأحلام والطفولة في الفصول الدراسية، وأن يتحججو السالكين الحياة بأن الوجهة التي أقصدها ليست وجهتهم..


معركة مريرة مع الرفض ..رفض المجتمع الذي يريد أن يحشرني عنوة في خانة المسخ ، ورفضي أنا للمجتمع الذي عليه أن يتقبلني كما أنا ..أن يراني بعيدًا عن شظايا المرايا، معركة مريرة ولا أجزم أبدًا أنها انتهت، لكني خبرت الانتصار عليها


كيف أعيش في مجتمع يقيس وجوده في المرايا؟ مرآة الحمام التي تستقبل وجهنا كل صباح، ومرآة ممر المنزّل التي تشيعنا بالرضا قبل ذهابنا إلى العمل، ومرآة السيارة التي تقيس أبعاد وتقيس مزاجنا وتنبهنا للكحل الذي سال بفعل الدموع الهاربه؟ المرآة كانت هاجسًا وكان علي اختراع طريقة لأقبل نفسي في المرآة ..لأقبل هذا الوجه الذي بالكاد تبدل في الوقت الذي يحصي فيه أقراني تجاعيدهم. 


المرآة هي لغة التعريف الذي خبرتها في حياتي، فلا يهم ما يجترح عقلك من أفكار ، ولا تهم موهبة كفيك إذا أشاح الآخرون وجوههم عنك ..في مواجهتي الحقيقة مع الناس..خارج دائرة الآمان، طريقتهم في النظر إلي ..تلك النظرة المشوبة بالخوف ، بالرّعب، كانت ترهقني بسؤال : هل أنا مخيفة؟ 
هذا الرفض الرهيب ، المشوب بتفاصيل مهينة ، مثل أن تضع أم يديها على عين طفل حتى لا يراني، وحين يرفض مطعم أن يستقبلني كزبون حتى لا أسد شهيتهم.

الرفض الذي كان يترجم نفسه ضربات على المعدة ، ويتحوّل إلى سائل شديد المرارة في فمي ، كان يدفعني دفعًا لحافة الغضب ..لحافة الشر. وكانت المعركة في داخلي كبيرة و مدميه ، منها بالسر و منها بالعلن فقد كانت بين الخير والشر ،بين الحب و الكره ،بين الرضا و التمرد،بين النزوح البقاء ... معارك طاحنه تنقلك من الحرب الي السَلم
و هنيئما لمن عبر الحرب إلى السلم بنذوبات متماسكه وتطالب بالخير والعدل رغم كل هذا الرفض و الآلام...
هي قصة "الجميلة والوحش" بطبعتي الخاصة، مجتمع أراد أن يتحصّن من رؤيتي ويحشرني في خانة "الوحش" الذي يخوّف الأطفال إذا ما قاوموا الذهاب إلى الفراش ، ومقاومتي التي أصرت رغم كل هذا الرفض المؤلم ، الذي يصل إلى حد الفظاعة ، أن أحافظ
على ايماني بأن الحياة حق للجميع، ولولا بيتي المحب ، لم أحد طريقي في مجال الأزياء ..أحد أكثر القطاعات تعبيرًا عن الجمال ..عن  الوجود الأنيق للجسد الذي يدّثر بقطع من القماش مفصلة بعناية غرزة فغرزة.

انتصرت على معارك كثيرة .. لا بصليل السيوف ..بل بإبرة صغيرة ..و نظرت إلى هذا العالم الواسع بشقها ..وتصالحت مع الدنيا ..كل الدنيا بخيوط ملوّنة
و تلخصت حياتي بعبارة واحده

حياة الحرب و السَلم..