مبروك للفائزين!الجمهور العام
شكرًا على مشاركتكم. أنتم أبطالنا!
الأردن|الجمهور العام
أناي بين أكّفِ وضحى
Rama Alamr
تأليف Rama Alamr
أناي بين أكّفِ وضحى

حين كنتُ أصغر سنًا ، كانت عينا أمي دومًا تحملان صمتًا شجيًا بعد كل زيارة لبيت جدّي. كنت أراها تسرح بنظرة بعيدة، تقاوم مشاعر عميقة وغامضة، وكأنما شيء ما يسرق منها زهرات الربيع ويبثها في شتاءٍ بارد داخلها. لم أفهم تمامًا ذلك الوجه الذي تزينه مسحة من القلق، وجهها الذي لم يعد يبدو لي ربيعًا كما عهدته. كنتُ حينها في بداية رحلة الوعي، وأتلمس ببساطة بين طيات تلك المرحلة خيوطًا كانت جديدة على روحي. في تلك الأيام، كم تاقت نفسي لمن يدلني على كيفية فهم هذه الحياة، على كيفية التعامل مع انفعالات ومواقف تَفيض في نفسي دون إجابة.
لم تكن أمي من بين الذين يمكنني أن ألجأ إليهم، ولا أخوتي الذين يكبرونني سنًّا، أما أبي فقد كان بعيدًا عني شعوريًا.
كل نهاية أسبوع، كانت العائلة تجتمع حول جدتي، في زيارةٍ باتت طقسًا ثابتًا لا نستغني عنه. كنتُ أذهب إليها بحثًا عن معنى للسلام الداخلي، رميتُ رأسي في حضنها، في تلك اليدين التي حملت تعب الأيام وتعرّجات السنين، لكن بريق عينيها ظل حيًّا لا يخفت، يتراقص كالحياة نفسها. شعرتُ بخجل غامض ينسل إلى داخلي كقشعريرة تشرين، حتى رفعت كفها تربت على رأسي بحنان. ذاب خوفي، وسرى دفءٌ كأنما وصل إلى أعماق قلبي. سألتها وأنا أرقب وجهها: "جدتي، كيف يمكن للمرء أن يكون راضيًا عن نفسه، أو يُحبها حقًا؟"
لم تجبني على الفور، بل انغمست في فراغٍ عميق، كأنها تغوص في بئر ذكرياتها. ثم همست قائلة: "يا جدّتي، كان عمري كله عمل. تربيت في هذه الدار، ربيتُ أربعة عشر نفسًا، كبرت كلٌ منها تحت سقف واحد، وخرجت كل واحدة تحمل شيئًا مني معها. لكنّ اللحظة التي شعرت فيها برضى حقيقي لم تكن بعد كل تلك السنين من التعب، بل كانت تلك اللحظة الصغيرة حين احتضنتكِ هنا، وأنا لا أملك سوى هذه اليدين."
حدقتُ إليها، تملأني دهشة طفلٍ لم يدرك بعد عمق العالم يومًا ما، كنت أرى فيها قوتي؛ جدتي التي واجهت الحياة بيدين معروقتين، ووجهٍ كُتب عليه تاريخ العائلة، ودمعة مختبئة تحمل في طياتها حكايا أجيال.
مرّت السنين، وكبرتُ، ولكن لم يذهب ذاك الفضول في داخلي. علمتني أمي، علمتني الحياة، لكن جدتي بقيت مرآتي. كنت أسألها عن كل شيء كلما مررت بموقف او تعلمت ما هو جديد تمامًا كما في الوقت الذي عرفت فيه معنى اسمي ، سألتها عن سر اسمها "وضحى". وكان لها من الإجابة دائمًا حكايةٌ مدهشة، تعود إلى لحظة قديمة حين قرر والدها أن يُسميها تيمنًا بالآية "والضحى"، ولكنه نطقها "وضحى" حيث نالت أميته من اسمها نصيب . كانت حكايتي معها تتجدد في كل لقاء، وكأنها تفتح لي بابًا لفهم ذاتي. وفي أحد الأيام، بينما كنت أقرأ قصيدة عن شهداء فلسطين، وجدتُ كلمة "رامَ" تتردد في بيت قصيدة علق في ذاكرتي، وأعجبني وقعها لأنها بدت تشبه اسمي.
لعمرك هذا ممات الرجال... فمن رامَ موتًا شريفًا فذا
وبعد البحث في اشتقاق الكلمة حينها قررت أن يكون لي لقب "رُمْ"، ربما ليخفف من شعور الغربة تجاه اسمي، ويكون رمزًا لشخصٍ أشعر أنني سأصبحه يومًا.
ذهبت إلى جدتي بعد المدرسة وأخبرتها عن اللقب. كنت متوترة، متحمسة، وكأنني أشاركها سرًا بيني وبين نفسي. رحبت به بابتسامة تضيء قلبها، كأنها كانت تنتظر مني أن أعثر على تلك الصيغة التي تمنحني شيئًا من الرضى . "رُمْ" أصبحت كلمتنا الخاصة، سرًّا بيني وبينها، وعدًا بأنني سأصبح "رُمْ" الحقيقية يومًا، تلك الفتاة التي تجسّد قوتي وطموحاتي.
كان ذلك في أوائل كانون الثاني من عام ٢٠١٦، حين توسلت لأمي أن أقضي بضع ليالٍ في بيت جدتي. في ذاك الشهر، كانت جدتي لا تزال تعاني من آثر حرق في قدمها لأنها لم تشعر بالحرارة تلتهم جلدها نتيجة مرض السكري، وتكشّف لي سبب القلق الذي يراود أمي منذ سنوات، فقد كانت تستمد من جدتي صلابة تستتر خلف ابتسامتها حتى أنها كانت تصاب بالوهن في كل مرة تختبر بها جدتي نكسة صحية . بعد إقناع طويل، نلتُ ما أردت، وأمضيتُ الليلة في بيتها، كانت ليلة جمعة. بعد أن اغتسلتْ، قامت خالتي بتسريح شعر جدتي، وأصررتُ أن أجدل شعرها بضفيرتين. حين نظرت إلى المرآة وضحكت، كان في ضحكتها دفء اللحظات القديمة، كأنما الزمن عاد بها.
في تلك الليلة، استعرت من جدتي سترة صوفية قديمة كانت تشبهها في كل شيء؛ نسجتها بيديها، وجمعت بين طياتها عطر عمرٍ طويلٍ مضى. شعرتُ وكأنني أحمل معها ذكرياتها، ورائحة تعبق بذكريات حكايات دافئة. احتضنتني تلك السترة كحضنها، كنت أشعر بوجودها القريب طوال الليل، بدفء طمأنينتها.
في صباح الجمعة، بينما كانت تتأملني بعينيها الحانيتين، ذكرتني بحديثنا القديم عن الرضى: "تتذكري يا رُمْ لما سألتيني كيف أكون راضية عن حالي أو أحب حالي؟ يا جدة ترا الناس حولينا ما يشوفوا كلشي فينا ويشوفونا لما نغلط أكثر من لما نسوي الصح. اليوم اللي حسيت حالي فعلاً راضية عن حالي مو يوم قعدتي بالدكان سنين ولا ايدي اللي عجنت لبن وخبزت وغسلت الاواعي بيها لا، كان يوم نمتي بحضني وما كان معاي غير هاذي الجاكيت اغطيكي بيها، إني عشت يوم وشفت أحفادي كيف همه بصحة وعافية وأهلهم بخير وكل واحد بيهم عنده حياته بعد ما كانوا كلهم حياتي، الرضى ما ينقاس بحكم الناس علينا، الرضى الي احنا لازم نحسه يجي لما نشوف نتيجة احنا نقدرها."
بكلماتها، غرست فيّ معنى الرضا، وكيف يكمن في البذور التي نزرعها، وفي محبتنا لمن حولنا.
ولكن مرّ الزمن. وبعد أيام، جاء يوم الأربعاء، العاشر من شباط عام ٢٠١٦، واستيقظتُ على صوت أمي، تبكي وتمسك الهاتف. شعرتُ بقلبي يفرّ ولكن غالبتني الحمى ، استيقظت على جملة واحدة كان مفادها أن الموت زارها. حين رأيت وجهها المسجّى، كان هادئًا كما عهدته، حتى أنني لم أشعر ببرودة الموت عندما قبلت جبينها وكأنها كانت تستغرق في نوم عميق، وكأن كفها الباردة كانت تهمّ بمدّ دفء حبها من جديد.
وقفتُ أرقب الجنازة المارّة من بعيد. في ذلك اليوم كانت تعتريني الرغبة بالعودة إلى الديار، رغم أنني في الوطن والمدينة ومنزلكِ ولكن أنتِ لستِ هنا.
أكتبُ إليكِ وأنا "رُمْ"، الاسم الذي منحني إياه قلبكِ، الاسم الذي وعدتكِ بأن أعيشه حقًّا. لا تزالين معي، في أعماقي، تُدثريني بما تبقى من حكاياك، بما أخبرتني عنه يومًا عن الرضى، عن كيف يكون حب الإنسان لنفسه حين يرى انعكاسه في قلوب من يحبونه.صرتُ أعي معنى الرضا الذي رسمته لي، وأشعر به الآن ينبض بداخلي. لو كان لي أن أراكِ من جديد، كنت سأحدثكِ عن روحي التي شكلتها يداكِ، عن قلوب من عرفوكِ وما زالوا يذكرونكِ بالخير. لقد علمتني أن الأجداد لا يموتون، بل يحيون في حكاياتهم التي نحملها نحن الأحفاد .