كعادتي، أحبّ الكتابة وسط الضجيج، ولكن أرتدي سماعتي لأفصلَ عمّن هم حولي، هكذا أنا، أحبّ الصخب وأبحث عن الهدوء، في اللحظةِ التي جلست بها على مقعدي المخصص في أحد المقاهي، المقعد الذي يجاور بابًا زُجاجيًا، أحبّ أن أراقب قطرات المطر وهي تهطل على رؤوس المارّة، كوبٌ من القهوة، والجميع من حولي يتحدثون بهمس، أذكر أنّ فتاةً كانت تصرخ في وجهِ عشيقها؛ لأنّه لم يُجب على مكالماتٍ عدّة لها.. هُنا، أخذت الجانب الآخر وظللت أنظر نحو الشارع، الجميع يركض، منهم هاربًا من المطر، والآخر يستمتع به، قبل كتابتي أحب أن أطيل النظر بالأشياء، بينما أنا شاردٌ في عالمٍ مليئٍ بالأحلام الوردية، يرن هاتفي، كانت والدتي، قالت لي: أين أنت! لماذا لم تتصل بي منذ الصباح؟ هي تعلم أنني حين أجلس للكتابة، لا أتذكر أحدًا، وأغوص في بحرٍ لا أقدر على النجاة منه إلّا عند الانتهاء مما أنا فيه.
أخبرتها أنني لن أشاركهم الغداء في المنزل، أقفلت المكالمة.
عند أوّل رشفةٍ من مشروبي الذي يُشاركني كل ما أكتب، انسكب مني سهوًا، تذمّرت، وتنهدت غضبًا، شعرت أنني بحاجةٍ للسير قليلًا تحت المطر، فأخذت معطفي عن الكرسي المقابل لي، وذهبت للخارج قليلًا، أحاول إشعال سيجارة، ولكن دون جدوى، قمت بكسرها ورميها على الأرض، ثُمّ دخلت مُجددًا إلى المقهى.
جلست على الكرسي، دنوت رأسي على الطاولة، ثُمّ تنهدت بغضبٍ مرّة أخرى، ورفعت رأسي لأكتب، فلم يتبقَ الكثير من الوقت، ووجب عليّ أن أنهي هذا العمل.
بدأت بكتابة السطر الأوّل من روايتي، فكتبت:
" لماذا كُلّ الأشياء التي أحبها لا أحصل عليها؟ ما السبب وراء هذا الحزن الذي يسكنني؟ "
استرقت النظر مرّة أخرى من النافذة، لأرى شابـًا يافعًا، الشيب يعلو رأسه، يرتدي زيـًا لونه أخضر، يدنو من الأرض لالتقاط الأشياء، لم أكترث للأمر، حتى وصل إلى سيجارتي التي قمت برميها منذ قليل، التقطها عن الأرض، هُنا شعرت أنّني بلا قيمة، نظر إليها وابتسم، ثُمّ وضعها في العربات التي ترافقه، هُنا أمعنت النظر أكثر، وأخذت أراقب تحركاته بكلِّ دقّة، يمشي كالعجوز وهو في شبابه، ترددت في الذهاب إليه، ولكن هناك شيءٌ ما بداخلي يدفعني إلى الخروج لاحتضانه، كُل من في الخارج يحملون المظلّة لحماية أنفسهم من برد المطر، ومنهم من يركض هربًا، ولكنّه الوحيد الذي كان يمشي بكلِّ هدوء، يمشي وكأنه لا يكترث، يمشي وكأنه لا يشعر بشيء!
تعجبت مما رأيت، وما أثارني أكثر، أنني لم أرَ أحدًا يكترث لأمره، هُنا قررت أن أخرج إليه، وأن أدعوه لأن يُشاركني كوبًا من الشاي، لعلّني أدخل الدفء لقلبهِ قليلًا، وقفت عند الباب وناديتُ بصوتٍ فرِح: تعال إلى هُنا أيّها الشاب، أريد أن أخبرك أمرًا.
نظر إليَّ بتعجّب وسعادة، وكأنه ينتظر أن يلتفت له أحدهم، اقترب من الباب ثمّ أخبرني أنّه لا يملك الوقت الكافي ليجلس، وأنّ هناك أعمالًا أخرى يجب عليه أن يُنجزها قبل نهاية اليوم، فقلت له: ) يا سيدي كلها كاسة شاي وبتروح، تعال حاب أتعرّف عليك).
دخلنا إلى المقهى، أخبرته قليلًا عن نفسي لأكسر الحاجز بيني وبينه، ثُمّ وجهت له سؤالًا، كان أشبه بالرصاصة؛ فقد تعثّر كثيرًا وهو يحاول الإجابة عليه، قلت له: ما الذي يدفعك لأن تكون عامل نظافة؟ ألم تجد وظيفةً أفضل من هذه؟
كان يأخذ الرشفة الأولى من الشاي، نظر إليّ وقال: ماذا تعرف عن الظروف يا إيهاب؟ ألا تعلم أنّها العدو اللدود للأحلام! ألا تعلم أنّها سرطان الأمنيات! تعجّبت منه، كان يصفّ الأشياء بحرقة، ووجدت أنّه بحاجةٍ ماسّة لأن يسأله أحدهم ما بك، حتى ينهار أمامه، وضع كوب الشاي على الطاولة وبدأ الحديث وقال:
حين كنت طفلًا كانت لديّ الكثير من الأحلام، ولكنّني لم أكن أعلم أنَّ هناك ظرفًا ينتظرني ليأخذني في طريقٍ أخرى، وهُنا كان الدرس الأوّل لي، التضحية، ذهبت للعملِ وأنا في عمرِ الخامسة عشرة، كانت وظيفتي الأولى في أحد محال الحلويات في العاصمة عمّان، اضطررت للخروجِ من المدرسة لأكون مُعيلًا لوالدتي التي كانت تحتاج إلى العلاج، وهو يُحدّثني عمّا يفعل وكلّه فخر بنفسه، كانت عيناه تقول شيئًا آخر وكأنّها تقول: ( أنا مُتعبٌ يا إيهاب ).
أحدّق في عينيه بينما هو يُخبرني أنّه أنهى العمل لدى محل الحلويات ثُم ذهب لشركةٍ تؤجر السيارات، حتى وصل لعمرِ الشباب، في الثامنة عشرة من عمره كان يعمل أيضًا في مجالِ الأمن والحماية، وأخبرني الكثير أيضًا عن كمِ هائلِ من الأعمال التي أجبرته الحياة على العمل بها، ولكنني كنت غارقًا في ذاك البؤبؤ الذي يسرد لي قصّة أخرى.
حتى أخبرني أنّه كان يبحث عن وظيفةٍ حكومية، إلى أن تمّ تعيينه وبشكلٍ رسمي في أمانة عمّان الكبرى عام 2017.
ابتسمت في وجهه وهو يتكلم، فأخبرني ما الذي يُضحكك! قلت له: أضحك فخرًا...
فأمثالك هم الحكماء، هم الذين يستحقون أن نقف لأجلهم وقفة عزّة وشرف، أنت تصارع الحياة، في حينِ أنّ من هم في عمرك، يعيشون الحياة بكامل رفاهيتها، هُنا كانت كلماتي له كسكينٍ تشرخ ظهره المُتعب، فقد نظرَ إليّ بطريقةٍ وكأنه يقول: أدخلتني إلى هنا لتقتل آخر أملٍ لي في هذه الدنيا؟
كنت أحاول أن أكون قاسيًا بعض الشيء عليه؛ لأخرج كُلّ ما فيه، لا أريده أن يخرج من هذا الباب إلّا وقد ترك كل ما في قلبه على هذه الطاولة، فقلت له: لماذا لا تشرب الشاي؟ سيبرد؟ ابتسم وقال، سأشربه في وقته المناسب لا تقلق، تعجّبت وللمرّة الثالثة من اختيار هذا الشاب لكلماته، سألته: هل تخجل من كونك عاملًا للوطن؟ أو كيف ترى الناس ينظرون إليك!
وضع قدمه فوق الأخرى، ثمّ أسند ظهره باستقامة على المقعد، وقال:
أنت لا تعلم ماذا يعني أن يكون المرء عاملًا لوطنه، البعض يرى أنّ هذه الوظيفة مُخجلة، أو أنها لا تليق بهم، الا أنني أعمل بها وكلّي فخر بأن أكون خادمًا لوطني، أتعلم أنني أعرف أسرار كل البيوت! وأعرف من في هذا الحي يترك الطعام كما هو، ومَن لا يعرف اللحوم؟ ومن لا يحترم النعمة التي وهبنا الله إيّاها، كثيرًا ما كنت أجد الطعام مُلقى في القمامة كما هو، لطالما وجدت الخبز مُتعفنًا على الأرصفة، أنا هُنا كالحكيم الذي يبحث عن الأجوبة لكلّ الأسئلة، كُلّما رأيت شابًا في عمري يبتسم لي، يظنني أخجل مما أنا عليه ولكنني في الحقيقة سعيدٌ إلى الحدّ الذي لا يوصف، حتى أنني ظننت أنّ هذه الوظيفة ستقف عائقًا في وجهي إن أردت الزواج، ولكنها لم تكُن كذلك، تزوجّت ورزقني الله بطفلٍ اسميته شهم، وزوجتي الآن هي سرّ قوتي، هي السند الحقيقي لي، هي التي أراها دائمًا تقف في ظهري كلّما شعرت أنني سأميل، كانت أشبه بضمادٍ للجروح، يا إيهاب أنت أجبرتني على أن أخبرك أسرارًأ كثيرةً عني!
قلت له: لا تقلق، الجميع يتركون أسرارهم لدي، فأنا صندوقٌ مليءٌ بما يجول في قلوب النّاس، ولكنني الآن أشعر بالدهشة، فأنا لم أرَ شابًا يُخبرني عن نفسه وعمّا يفعل في حياته بهذه الجرأة وبهذا الفخر كلّه، ما هو سرّك؟
ضحك في وجهي بصوتٍ عالٍ قليلًا، وقال: لا أملك سرًا صدّقني ولكنّ هذه الحياة، إن لم تُصارعها بالطريقة التي يجب، فكيف لك أن تكون رجلًا حقيقيَا؟ أتعلم يا إيهاب ما هي الرجولة الحقيقيّة؟
أشعلت سيجارة، وقلت له: أنا أعلم، ولكن أحب أن أسمع منك أكثر، أخبرني!
فقال: هي ألّا تمتلك المال، ثم تصنعه من اللاشيء، أن تواجه الظروف بابتسامة، أن تحوّل ما تعيش بهِ سلبًا إلى قصّة تُحكى أينما ذهبت، كما أنا الآن أمامك أخبرك عنّي وأنا بكامل الفخر بنفسي، لا أشعر بالشفقة، ولا أحب أن يشفق عليّ أحدهم.
نظر إلى ساعته وقال لي: اعذرني يجب عليّ الذهاب الآن.
فقلت له: هل تمانع إن رافقتك في عملك؟
فقال لي وهو يضحك: هل أنت جاد؟ فقلت له: نعم، بالتأكيد، ولكنك لم تشرب الشاي حتى الآن!
فقال لي: لا وقت لدي، عليّ الذهاب، إن رافقتني فسنعود وأشربها في الوقت المناسب.
تعجّبت من تكرار هذه الكلمة، فقلت له: ما الذي تقصده بالوقت المُناسب!!
فقال: سأخبرك حين نعود، ولكن أخبر الشاب الذي يعمل هنا أننا سنعود، فليترك كل شيءٍ على حاله.
أقفلت جهاز الحاسوب الخاصّ بي، وارتديت معطفي، وخرجنا من المقهى، فقال لي عند الباب: اسمح لي أن أعرّفك على صديقي المُقرّب، وأشار بإصبعه نحو العرباة، وقال لي: هذا هو صديقي الذي يشاركني أسراري دائمًا، لعلّه يغضب لوعلِم أنك تشاركه أيضًا أسراري وضحكنا معًا.
وبينما نحن نمشي في الطريق بين المارّة، أخذ يلتقط مُجدّدًا الأشياء عن الأرض، في حينِ أنه يقوم بالبحث عن الأشياء، قلت له: أخبرني، ما هي أجمل اللحظات التي عشتها في هذه الوظيفة؟
نظر إليّ وقال: اتصالٌ هاتفي.
قلت له: ماذا يعني هذا؟ قال: اتصل بي سيدي ولي العهد، سيدي حسين، في حينِ أخبرني بهذه المعلومة، كانت عيناه أيضًا تتحدّث حُبـًا، كان يشعر بالفخر بنفسه، علمت هُنا أنّ هذا الشاب هو روحٌ مرِحة، طفلٌ مختبئ خلف شابٍّ عجوز، تُبسطه الأشياء البسيطة، وتجرحه الكلمات القاسية، قال:
لا أخبرك عمّا شعرت حينها، كل من هم حولي قدموا لي التهاني بهذا الإتصال وكأنني استلمت منصبًا عظيمًا، ولكننا في بيتنا بُسطاءُ جدًا، نحب الحياة ولكنها لا تُحبنا، نحب الأحلام ولكنها لا تُريدنا، نُريد أن نعيش، ولكننا لم نقدر على فعل هذا.
على غفلةٍ انقلب حال الشاب، تغيرت ملامحه وبسرعة، ولكنني لم أشعره أنني لاحظت ما حدث، فقلت له: ما رأيك أن نتناول الغداء معًا؟ فقال لي: لا بأس ولكن بشرطٍ واحد!
فقلت: ما هو؟
قال: أنا الذي سأدفع ثمن الغداء وإن رفضت، سأرفض أن أشاركك إيّاه! فما رآيك؟
ضحكت في وجهه وقلت له: حسنًا قبلت.
دخلنا إلى أحد المطاعم، ثُمّ تناولنا أطراف الحديث قليلًا، وخرجنا من المطعم، وفي الطّريق وجّه لي سؤالًا وقال: ما الذي يدفعك لمرافقتي والاهتمام بأمري إلى هذا الحدّ؟ هل تشعر بالشفقة علي يا إيهاب؟
ضحكت بوجهه البشوش وقلت: لا يا صديقي، ولكنك قدوةٌ لكُلّ من يحتاج أن يقتدي بأحدهم، أتعلم يا أحمد أنك بطل! أنت بطلٌ يجب أن يُحكى عنك في الروايات القديمة، يجب أن تُرى على الشاشات، ليس لأنك عامل وطن، إنما لأنك شجاع، وتواجه الحياة بهذا الوجه الحسن والأخلاق الرفيعة، أتعلم من هو البطل الخارق؟ أو لماذا يسمّى خارقًا!
في الشخصيات الكرتونيّة، يمتلك البطل قوّة على الطيران أو على إخفاء الأشياء أو هزم الأعداء، ولكن في الحياة الحقيقيّة، البطل هو من يواجه الصعاب ويخرج منها بأقل الخسائر، أنت الآن تقف أمامي وكل من هم حولنا لا يعلمون أنّ هذا الشاب هو بطلٌ في روايته، يظنون أنك عادي، دون أهداف، دون أحلام.
أنت بطل يا أحمد، في عيني أولًا ثُمّ في عينِ كل من يعرفك، فإيّاك أن ترى نفسك عاديًا، أقسم لك أنّ ما تفعله أنت وما فعلته في طفولتك وشبابك لن يقدر عليه إلّا من كان يمتلك القوّة والشجاعة.
بينما أنا أتحدّث، كانت دمعته تسيل على خدّيه، كأمطارِأيلول، مزيجٌ ما بين الألم والأمل، أنا أعلم لماذا هو يبكي، ولكنني لم أسأله عن السبب، فقاطعني على غفلة وقال لي، دعنا نذهب إلى المقهى لنكمل الحديث.
فقلت له: وماذا عن العمل؟ فقال: لا بأس، أنجزه غدًا.. عليّ أن أشاركك الكثير من الأشياء، ولا أريد أن نبقى هكذا في الطريق.
عُدنا إلى المقهى وجلسنا، طلب مني أن يأخذ سيجارة، فسألته: هل أنت مُدخن؟ فقال لي: لا، ولكنني أرغبها، فقلت له: هل أطلب لك كأس شاي جديد؟ أظن أنّ هذا الكأس قد برد، فقال: لا بأس، أريده هكذا، وسأشربه في الوقت المناسب، الآن دعني أفشي لك بعضًا من الأسرار عن هذا البطل الذي يجلس أمامك..
فقلت له: كلّي آذانٌ صاغية.. أخبرني ما شئت...
فقال لي: ولدت في منزلٍ مليءٍ بالفتيات، لم يكن لي إخوة، هُنا علمت أنّ هناك مسؤوليةً كُبرى وضعت على أكتافي الهشّة، وأنّ هناك فجوةً كبيرة بيني وبين والدي، ليس لأنه سيء، إنمّا هناك فرقٌ كبيرٌ بالعمر بيني وبينه، فلم يكن أبي صديقي كما حال الشباب، فهذا الأمر أيضًا لم يُساعدني قطّ، عندما قررت أن أخرج من مدرستي للعمل، لم يوافق أبي وأمي على هذا القرار، ولكنني كنت مجبرًا كما أخبرتك سابقًا، والدتي كانت تحتاج العلاج، ووجبَ عليَّ أن أكون أنا ذاك الشخص الذي يُضحي بما يُحِب لأجلِ ما يحتاج.
أنت تنظر الآن إلى بقايا شاب، فالحياة أنهكتني، لم تكُن كما أريد، لم تُساعدني لأكون كما يجب، منذ قليل اسميتني بالبطل، ولكن لماذا؟ ما الذي دفعك لتختار هذا الاسم بالتحديد؟ ما الذي رأيته بي ولم تره بغيري؟ أم أنك قلت ذلك فقط لتعزز ثقتي بنفسي؟ وأنا في الحقيقة كغيري!
ابتسمت في وجهه وقلت له: أخبرتني قبل أن نخرج أنّك حكيم في الشوارع، أليس كذلك؟
هل لك أن تخبرني لماذا نعتّ نفسك بالحكيم؟
قال: لأنني أرى الأشياء من زاويةٍ لا يراها غيري بها، إن وجدت كسرةً من الخبز، لا أضعها بين القمامة، إنمّا آخذها معي للمنزل! إن وجدت بقايا للطعام، آخذها لمن أعلم أنّه بحاجتها، لهذا أرى نفسي حكيمًا في الطّرقات، ولكنني صامت، لا أتحدث، ولا أخبر أحدًا عمّا أراه، سواك الآن، أنت تعلم كل الأشياء.
فقلت له: ممم يعني هل أقدر على مناداتك بحكيمِ الشوارع الصامت؟ ابتسم في وجهي وكأنني وضعت له ضمادًا على جرحٍ لم يُشفَ منذ زمن، وقال لي: ماذا الآن؟ هل أنا بطل أم حكيم؟
فقلت له: أنت بطلٌ في عينِ كل من يجالسك، وحكيمٌ في عينِ نفسك، وهذا يكفي، إيّاك أن تستهين بما أنت عليه يا أحمد.
ولكنك حتى هذه اللحظة، لم تشرب الشاي، وقد أصبح باردًا جدًا، ولم تُخبرني لماذا!! على الرّغم من أنني دعوتك لشربهِ لتشعر بالدفء من برد الطريق!
فقال لي: كلماتك أشعرتي بما أحتاج، فقلت له ممازحًا: هل كلماتي كانت كالشاي؟ هل كانت حلوة المذاق؟
فقال لي: لم تُصِب، أنت أشعرتني أنني أستحق، فكلامك لي كان بمثابةِ صديق، كان كالأب، شعرت بالأمان لوهلة، ولوهلةٍ أخرى، شعرت بالطمأنينة، هنيئًا لك يا إيهاب، أظنّ أنّك مُستمعٌ جيّد.
فقلت له: هل أخبرتني بكلِّ هذا، حتى لا تُجيبني لماذا لم تشرب الشاي؟
لا أظنها الآن صالحة للشرب، فالشاي يُشرب ساخنًا، سأطلب لك كأسًا أخرى شئت أم أبيت، فقال لي: وإن فعلت، سأنتظرها لتبرد كما هذه، لا تقلق سأخبرك بالسبب، ولكن في نهاية الجلسة.
هل أخبرك أمرًا؟ فقلت له: بالتأكيد!
فقال: في مجتمعنا، ينظرون إلينا بشفقة، لا أعلم لماذا، أو أنهم يظنونّ أننا أقلٌ منهم! وهذا الأمر لقد عانى منه الكثير من الزملاء في العمل، أريد أن يعلم العالم أجمع، أنَّ عامل الوطن، ليس شيئًا يُخجل منه، أريد أن يعرف الجميع أننا نبحث عن السعادة في هذه الحياة كما يفعل الباقون، وأنّ الظروف هي من تُجبرنا لنكون أشخاصًا آخرين.
فقلت له: صدقت في هذا يا أحمد، فالحياة أحيانًا تُجبرنا على أن نصنع من أنفسنا أشخاصًا لا نريد أن نصبح عليهم، ولكنّ البطل من يخرج من هذه المعركة سالمًا دون جروح بليغة، أن يحافظ على نفسه وعلى ما بداخله حتى آخر رمق.
ولكن أتعلم أمرًا يا أحمد؟
أخبرني يا إيهاب!
هذه من صفات البطل، أن تتمسّك بما أنت عليه مهما كانت الظروف قاهرة، أن تُحبّ نفسك التي أنت عليها حتى يُحبّك الجميع، وأنت الآن هو البطل، سأكتب عنك كثيرًا، سأخبر الجميع عنك، سأسرد قصتك أمام كل الشباب؛ حتى يعلموا أنّ هناك من يُصارع الحياة ليعيش حياة كريمة وعفيفة، والآن اظنّ الوقت قد حان لتُخبرني..
فقال لي: عمَّ أخبرك؟
قلت له: لماذا لم تشرب الشاي حتى الآن، وما هو الوقت المُناسب؟
فقال لي: حسنًا! أظنّ أنّ الوقت قد حان... سأخبرك:
حين دعوتني، كان من المفترض أن أشرب الشاي فور دخولي لأستلّذ بمذاقه، هذا ما يفعله الجميع، ولكنني أردت أن أثبت لك أمرًا... أنا أحبّ أن أشرب الشاي ساخنًا؛ ولكنني دائمًا أحب أن أختلق ظروفًا سيئة حتى لا أصدم بواقعٍ لم أفكر به، حتى أكون جاهزًا لأيّ شيء عكس ما أردت، لهذا تركت الشاي يبرُد، سأشربه وهو في أسوأ حالاته، لأستلّذ بهِ وهو في أجملها.
تعلّمت هذا الأمر في صغري، حين كنت أرغب بشراء درّاجة هوائية كأطفال الحيّ، ولكن لم أكن أملك المال الكافي، فكنت دائمًا أهرب حين أرى أطفال الحيّ يجتمعون أسفل المنزل؛ لأنني أعلم أنهم الآن سيشكلون سباقًا كعادتهم.
لهذا اعتدت أن أضع ظروفًا سيئة حتى لا أصدم بواقعٍ آخر...
هل ما زلت تراني البطل الآن؟
فقلت له: يا أحمد، أنت البطل الآن، ويجبُ على الجميع أن يعلم من أنت، ويجب على هذه القصّة أن تُكتب لأحدهم حتى يراها، وأظنُّ أنّ المكان الوحيد الذي سيحتضن ما كتبه إيهاب وما عاشه أحمد، هي المنصّة المُسمّاه بـ مسوّدة.
الآن، سآخذ منك رقم هاتفك، وسألتقي بكَ مُجددًا فور انتهائي من كتابة هذه القصّة، ونحتفل معًا بفوزها، سأفوز أنا ككاتب، وستفوز أنت كبطل.
احتضنني أحمد قبل خروجه من المقهى، وحين خرج قال: شكرًا لأنك هنا يا إيهاب.
وذهب ليمشي في طريقه مرة أخرى... وينتظر اتصالي به.