مبروك للفائزين!الجمهور العام
شكرًا على مشاركتكم. أنتم أبطالنا!
الأردن|الجمهور العام
حُلمٌ ثلاثي الابعاد
Abdullah paints almahsery
تأليف Abdullah paints almahsery
حُلمٌ ثلاثي الابعاد

حُلمٌ ثلاثيُّ الأبعادِ
حيُّ المحاسِرة، التاسعَ عشرَ من حَزيران عامَ (1990م)، ولدتُ لعائلةٍ محافظةٍ كنتُ أنا أكبرَ أبنائِها ضمنَ أسرتيَ الكبيرةِ؛ عائلةِ بيتِ «محسير» التي تقطنُ الحيَّ المسمَّى باسمِها في جبلِ «التاجِ»، في هذا الحيِّ المُترَع بالذكرياتِ، مهدِ طفولَتي وشبَابي الذي قضيتُه بينَ أبناءِ عُمومتي ورِفاقي، في جوٍّ عشائريٍّ عائليٍّ مُتآلفٍ وحميمٍ نَشَأْت، وكبُرَتْ معي أحلامِي وطُموحاتي، وبدأتُ أرسمُ طريقيَ في هذهِ الحياةِ التي لمْ تكنْ طيِّعةً لأيِّ شابٍّ منْ أبناءِ جِيلي تحديدًا؛ جيلِ الألفيَّة الذي ودَّع حقبةَ الرَّتابةِ والزَّمنِ الجميلِ والعملِ اليدويِّ ليستقبلَ ألفيَّةً جديدةً تفجَّرتْ خِلالها ثورةُ «الإنتَرنِت» وتُكنولوجيا المعلوماتِ والمرئيَّاتِ والرَّقمنةِ، وبرزَ عالمُ الأعمالِ والمهَنِ التقانيَّةِ، وكنتُ واحدًا من بينِ كثيرينَ شقُّوا طريقَهم في هذا العصرِ المُتسارع تكنولوجيًّا بعزيمةٍ واجتهادٍ واعتمادٍ كليٍّ على الذَّات، واستطعتُ إلى حدٍّ ما تطويرَ حِرفتي، وتحقيقَ جزءٍ يسيرٍ من طُموحي، أنا عبد الله نعيم المحسيري، ومن قلبِ عمَّان، هذي قصَّتي أرويها لكم.يُقال في المثَل: «مَن شابهَ أباهُ فما ظَلم»، وكأيِّ طفلٍ متعلِّقٍ بأبيه أينما ذهبَ اعتدتُ منذُ صِغري على مرافقةِ والدِي إلى عملهِ في حِرفةِ تشكيلِ الديِّكوراتِ بالحفرِ على الحَجر، كانَ عملًا مُجهِدًا للغايَة؛ لكنَّه فنيٌّ بامتِياز، وكنتُ بحكمِ صِغَر سنِّي أُعِينُه في أعمالٍ بسيطةٍ في بدايةِ الأمرِ، وبطبعيَ الشَّغوفِ للمعرفةِ والملاحظةِ بدأتُ أراقبُ بعينِ الصَّقر عملهُ المُتقَن، ودقَّتهُ في تشكيلِ أعقدِ التَّفاصيل في الحفرِ بأسلوبٍ فنِّيٍّ غايةٍ في الجَمال، ويمكنُ القولُ بأنَّني بدأتُ أتشرَّبُ أصولَ الفنِّ منْ معلِّمٍ محترفٍ لا يُشَقُّ له غُبار، فقد عُرِف عن والدِي بينَ أوساطِ الحِرَفيين دقَّتُه البالغةُ في العملِ والالتزامِ في تسليمِ عملهِ في المُدَّة المحدَّدة، والأهمُّ من ذلك تفانيهِ في تقديمِ أروعِ القطعِ الفنيَّةِ مهما كلَّفتهُ من وقتٍ وجهدٍ، ولو أنَّ مردودُها غيرُ متناسبٍ مع الجَهد المبذولِ لإنجَازها؛ ذلك لأنَّ المِهن اليدويَّة في بلادِنا كانتْ وما زالتْ حتَّى يومِنا هذا من أصعبِ المِهَن وأقلِّها مردودًا، والحِرَفيونَ هم أخْبَرُ الناسِ بهذهِ الحقيقةِ. لا أنكرُ أنَّ لوالدِي أكبرَ الأثرِ في زرعِ بذرةِ شخصيَّتي الفنيَّة التي انعكسَت على أسلُوبي في العملِ الدَّقيق المُتفاني الذي عُرِف عنِّي فيمَا بعدُ؛ لكنَّ شغفِي قادَني في خطٍّ فنيٍّ مغايرٍ لوالدِي رغمَ اتِّفاقِنا في أخلاقياتِ العملِ، وشاءَ القَدَرُ أن يوجِّهني نحوَ فنٍّ من نوعٍ آخرَ.قِيلَ لي: «إنَّ لكَ يدَي حِرفيٍّ، وذهنيَّة فنَّان»، ولمْ أدرِك معنَى هذهِ الجُملة حتَّى قادَتني الأقْدارُ إلى التَّخصصِ في رسمِ الجداريَّاتِ، وتعلُّمِ أسسِ المنظورِ، والأعمالِ الخزفيَّة، وتشكيلِ الأوَاني على الدُّولابِ في الصَّف لأوَّل الثانَوي، فأتممتُ دراسَتها ونلتُ الشهادةَ الثانويَّة، لكنَّني لم أهتمَّ بالرسمِ بقدرِ ما استمَالني العملُ بالخزفِ؛ لأنَّه جمعَ بينَ الخفَّة والإبداعِ والسرعةِ والتركيزِ في آنٍ واحدٍ، إضافةً إلى أنَّه إحياءٌ لتراثِنا الشعبيِّ الذي عشقتُ تفاصيلهُ ومكوناتهِ مُذْ عرفتهُ، شاركتُ في عدَّة نشاطاتٍ فنيَّةٍ في الحيِّ والمدرسةِ، كانَ من بينِها معرضٌ لوزارةِ التربيَة على مستَوى المدارسِ في مختلفِ التخصُّصاتِ إذ كنتُ في الصَّفِ الأوَّلِ الثانَوي، قدَّمتُ فيه أعمالًا خزفيَّة، وفازَت مدرسَتي بجائزةِ معرضِ الخزفِ، قد يتبادرُ إلى ذهنِ القارِئ أنَّ الطالبَ الذي يدخلُ هذا الاختصاصَ لا يملك خياراتٍ أُخرى، فمجموعهُ في الشهادةِ الإعداديةِ يسوقهُ بهذا الاتجاهِ؛ لكنَّ هذا غيرُ صحيحٍ، فالطالبُ يستطيعُ اختيارَ مجالاتٍ أُخرى بنفسِ المجموعِ وتدرُّ عليه ثروةً في المستقبلِ، والكتابُ لا يُقرأ من عنوانهِ، بل العبرةُ تكمنُ في الخَواتيم.دخلتُ سوقَ العملِ بعدَ تخرُّجي؛ لكننَّي صُدِمت بالوَاقع، فكلُّ التخصصاتِ التي تعلَّمتها في المدرسةِ لا تُلاقي رواجًا وطلبًا في الذائقةِ المحليَّة، إنما تنحصرُ في أعمالِ الدِّهان التي شكَّلتْ الجزءَ الأكبرَ منْ سوقِ العملِ، معَ حيِّزٍ ضئيلٍ للجداريَّات وزخرفةِ الأبوابِ والرَّسمِ على الزُجاجِ، ونادرًا ما طُلب مني الرَّسمُ على الأسقفِ أو الأرضيَّاتِ الذي أجدهُ أميَزَ أنواعِ الرَّسمِ على الإطلاقِ؛ لما يُضفيهِ من جمالٍ وفخامةٍ على المكانِ. جرَّبتُ بعدها العملَ في النَّحت لكنَّني وجدتهُ مُكلِفًا، وكأيِّ شابٍ يرسمُ خطاهُ الأُولى في عالمٍ مزدحمٍ شديدِ التنافسِ، بدأتُ بخطًى وئيدةٍ متأنِّيةٍ بأعمالِ الدِّهانِ وتنفيذِ بعضِ الرسوماتِ الجداريَّة المتواضعةِ؛ لكنَّ طُموحي حلَّق لأبعدَ من ذلكَ بكثيرٍ، لطالما سافرَتْ بيَ الأحلامُ إلى عالميَ الخاصِّ الذي أبتكرُ فيهِ ما لمْ يخطُر على البالِ في هذهِ الحِرفةِ، ولم أشعُر يومًا أنني إنسانٌ نمطيٌّ ينفِّذ فقطْ ما يُطلب إليهِ، كانَ في عقلي صوتٌ آخرُ، يُريني العملَ الذي أنجزهُ بمنظورٍ مختلفٍ، فلمْ يكنْ مجرَّد عملٍ أنهيهِ وأتقاضَى عليهِ أجرًا، بلْ هوَ قطعةٌ فنيَّةٌ يتوجَّب عليَّ أن أوظِّف فيها أقصَى طاقَتي لتخرجَ بأَبهى صورةٍ، وتحمِلَ بصمةً مميَّزةً خاصَّةً، وهنا أدركتُ معنَى أنْ تمتلكَ يدًا حرفيَّةً بذهنٍ فنِّيٍّ.بدأتُ أطوِّر مهارَتي في رسمِ الجداريَّات، لا سيَّما التصميماتِ الهندسيَّة والزخارفِ الإسلاميَّة، وأدخلتُها في الدِّيكور؛ لأنهَّا بِرأيي لوحةٌ فنيّةٌ متكاملة تعبِّر عن هويتنا الشرقية الأصيلة وتراثنا العريق، إني أرى فيها عبق الفنِّ الإسلامي المتفرِّد عن بقيَّة الأمم؛ لكنَّها على أرضِ الواقعِ تحتاجُ إلى معدَّاتٍ ولوازمَ وكلفةٍ باهظةٍ، ناهيكَ عن عناءِ الحفرِ وتركيبِها على الجُدران؛ لكنَّني استطعتُ رسمَها بجماليةٍ عاليةٍ دونَ الحاجةِ إلى تركيبِها واستهلاكِ وقتٍ وجَهدٍ أكبر، وتفرَّدتُ باستخدامِ هذهِ التقنيَّة، كما وجدتُ معظمَ الرسَّامين ميَّالِين إلى رسمِ المناظرِ الطبيعيةِ خلافًا لي، وهذا ما ميَّزني وربطَ اسمِي بهذا النَّوع من الفنِّ، قدْ لا يعلمُ القارئُ مقدارَ صعوبةِ تنفيذِ الجداريَّات، فهيَ تتطلبُ دقَّةً بالغةً في القياساتِ ورسمِ الخطوطِ، ومنْ ثمَّ التلوينِ بألوانٍ تبقى ثابتةً علَيها؛ لكنَّ للعملِ فيها متعةُ للحواسِ والذِّهنِ، وكلَّما أتقنتُها وتطوَّرت فيها ازدادَ شغفِي بها أكثرَ فأكثر، وبحثتُ عن رسومٍ أعقدَ وأميَز.يلقِّبني مَن يعرفُني بلقبِ «الفنَّان»، وأنا أجدُ في ذلكَ ثناءً أرجُو أنْ أستحقَّه، استهوَتني موسيقَى العُود وأطربَتني في سنٍّ يافعةٍ، فاشتريتُ عودًا بدائيًّا بعمرِ الرابعةِ عشرةَ وحاولتُ تعلُّم العزفِ عليهِ، ثمَّ اشتريتُ عودًا آخرَ بعدَ عشرِ سنواتٍ وحاولتُ العزفَ مجددًا؛ لكنَّني اقتنعتُ بعدَ مدةٍ أنَّ الفنَّ مفهومٌ فكريٌّ حسيٌّ متكاملٌ، قد نعبِّر عنه بالأداءِ أو بالميلِ، وكلُّ مَنْ يستطيعُ تذوُّق الفنونِ هوَ فنَّانٌ بالفطرةِ، وليسَ بالضرورةِ أن يكونَ مؤدِّيًا له، ويكفِيني أنَّني استطعتُ التعبيرَ عنهُ بأعمَالي في الرَّسم.تغيَّر منظورِي لأعمَالي وللفنِّ عمومًا في حادثةٍ وقعتْ لي عام (2016م)، كنتُ واقفًا بجانبِ بابِ إحدَى الغُرف في منزِلي حينما نظرتُ إلى الإنارةِ التي عكسَتْ ظلَّهُ على الجدارِ في منظورٍ ثلاثيِّ الأبعادِ، وببديهةِ العارفِ بالمنظورِ رسمتُ الخيالَ على الجدارِ ليظهرَ البابُ وكأنَّه معلَّقٌ في الهواءِ متدلٍّ منَ الجدارِ، كانَت تلكَ أُولَى تجارِبي في الرَّسم ثلاثيِّ الأبعادِ، كنتُ نشطًا على منصَّات التواصلِ الاجتماعيِّ، وتحديدًا منصَّة «فِيس بُوك» التي بلغَ عددُ متابعيَّ فيها (10.000) متابعٍ، ومنصَّة «تِيك تُوك» التي بلغَ عددُ متابعيَّ فيها (15.000) متابعٍ، فنشرتُ رسمَ البابِ على «فِيس بُوك»، وذكرتُ حادثةَ رسمهِ بأسلوبٍ طريفٍ، فلاقَت رواجًا وإعجابًا واسعَ النطاق.لم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتَّى لمعَت في خَاطري فكرةٌ غريبةٌ، عندما وجدتُ إقبالًا على منْشوري في «فِيس بُوك»، قررتُ توجيهَ هذا الشَّغف بأسلوبٍ مفيدٍ، كنتُ آنذاكَ موظَّفًا في قسمِ الصيانةِ في فرعِ فندقِ «مُوفِنبِيك» في وادِي مُوسى في البَتراء، وكنتُ إضافةً لذلكَ أنفِّذ ورشةً لترميمِ الشَّوارعِ ،فطُلِب منِّي رسمُ ممرٍّ للمُشاةِ هناك؛ بمعنى: رسمِ خطوطِ المشاةِ على الطَّريق بلونٍ واحدٍ فقط، فطلبتُ أكثرَ من لونٍ للتَّنفيذ، كانَ الممرُّ جانبَ مدرسةٍ للأطفالِ، فخطرَ لي أنْ أنفِّذ ممرًّا ثلاثيَّ الأبعادِ لحمايةِ الأطفالِ العابرينَ للشَّارِعِ، فِكْرتهُ أنَّ الممرَّ يبدُو لسائقِ السيَّارة منْ بعيدٍ مرتفعًا عنِ الأرضِ، فيوهمهُ بوجودِ مطبٍّ يضطرهُ لتخفيفِ سرعتِه؛ درءًا لحوادثِ السُّرعة التي يتعرَّض لها الأطفالُ أثناءَ عبورِهم للشَّارع.بادَرتْ وزارةُ التنميَة إثرَ ذلكَ بنشرِ شكرٍ لي على صفحتِها الرَّسميَّةِ على منصَّةِ «فِيس بُوك» عام (2017م)، كما كرَّمتني بمنحِي شهادةَ تقديرٍ قدَّمتها لي المدرسةُ التي رسمتُ الممرَّ بجانِبها، وتلقيتُ تشجيعًا من عدَّة جهاتٍ رسميَّةٍ على نشرِ الفكرةِ في عمَّان، وقد وجَدَتْ هذه الجهاتُ أنَّ انتشارَ ممراتٍ للمشاةٍ من هذا النَّوع كفيلٌ بالحدِّ من حوادثِ السَّير التي تجاوَزت (50%) من الحوادثِ عمومًا، كانَ منْ بينِ هذهِ الجهاتِ أمانةُ عمَّان التي تواصلَت مَعي عامَ (2019م)؛ لكنَّ المشروعَ توقَّف بسببِ انتشارِ جائحةِ كُورونا ذلكَ العَام.مِنْ بينِ الحوادثِ الطَّريفةِ التي صادفَتني في مِهنتي، أنَّ ممثِّلي الوزارةِ الذينَ جاؤُوا لتَكريمي في المدرسةِ توهَّموا بوجودِ مطبٍّ في ممرِّ المُشاة الذي بدَا لهُم مرتفعًا من سيَّاراتهم، ولمْ يُدركوا الخدعةَ البصريَّة حتَّى رأوهُ على الأرضِ.منَ التجاربِ الرَّائعة في مجالِ عملِي أنَّني سافرتُ لزيارةِ مِصرَ عامَ (2021م)، وزرتُ مدنًا كثيرةً، وتعرَّفتُ على أماكنَ ومواقعَ أثريةٍ غنيةٍ بالرُّسوماتِ والزَّخارفِ، وفوجئتُ بحفاظِها على الفنِّ الإسلاميِّ وزخارفِه بدرجةٍ هائلةٍ في عمارَتها القديمةِ على مرِّ قرونٍ منَ الزَّمن، إلَّا أنَّ هذا الفنَّ منعدمٌ تقريبًا في بنائِها الحديثِ الذي تطغَى عليهِ الحداثةُ والعصرَنة، وتساءلتُ: لماذا يا تُرى لا نهتمُّ في الأردنِ بإبرازِ هذهِ الفنونِ في مدننِا القديمةِ، مثلَ مدينةِ «مأدبا» التي تزخرُ بكنزٍ تراثيٍّ هائلٍ؟ ولماذا لا نُحيي فنَّ الزخارفِ بدمجهِ في الدِّيكورِ الحديثِ، علمًا أنَّنا نحنُ أهلُ هذهِ الثَّقافة وروَّادُ هذا الفنِّ؟ إنَّه خطٌّ فريدٌ في العمارة تشهدُ له حضارتُنا في الأندلسِ التي ما زالتْ أوابدُها ماثلةً أمامنَا إلى يومِنا هذا، حتَّى إنَّ العمارةَ في إسبَانيا تأثَّرت بهِ تأثُّرًا عظيمًا.كنتُ ولا زلتُ أتمنَّى زيارةَ المغربِ، إنَّها مثالٌ آخرُ على العمارةِ الإسلاميَّةِ البديعةِ، ويُبهِرني تمسُّكها حتَّى الآنَ بحضارَتها وتصاميمِها الزخرفيَّة، ودمجِ الزَّخارفِ الإسلاميَّة في ديكورِ المنازلِ والشَّوارعِ والأبنيةِ العامَّة رغمَ تعقيدِها وصعوبةِ تنفيذِها، كما أنَّها تحرصُ على إظهارِها في جميعِ المرافقِ العامَّة على أنَّها إِحدى المعالِم المهمَّة في التعريفِ بهويَّتها الثقافيَّة، وهيَ إحدى أبرزِ السِّمات التي تُعرَف بها وتشتهرُ كبلدٍ سياحيٍّ على مستوى العالَم، فيما رأيتُ من خبرتيَ العمليَّة أنَّنا نبحثُ عنِ الحداثةِ والدِّيكورات الغربيَّة، ولا مشكلةَ في ذلكَ في بعضِ الأماكنِ ذاتش الطابعِ الحديثِ طبعًا؛ لكنَّ المشكلةَ في محاولةِ إيجادِ بدائلَ لثقافَتنا في الدِّيكور؛ مثلَ بدائلِ الرُّخام، وبدائلِ الخشبِ، رغمَ أنَّ رسوماتِ الزَّخارف والتصاميمِ الهندسيَّة أكثرُ جمالًا، وأنا أحاولُ في كلِّ عملٍ أنجزهُ نشرَ هذهِ الثقافةِ وتعميمَها؛ لأنَّ منْ واجِبي تجاهَ حضارَتي وبلدِي ومهنَتي أنْ أُبرزَ هويَّتنا التراثيَّة العريقَة التي تعودُ لآلافِ القرونِ، وأنْ أدافعَ عنها لأنَّها مصدرُ فخرٍ وتميُّز لنا.قد تظنُّ بعضُ شعوبِنا -خطأً- أنَّ الزَّخارف الإسلاميَّة مرتبطةٌ فقط بالمساجدِ ودورِ العبادةِ، أو أنَّها محصورةٌ في الأبنيةِ القديمةِ الكئيبةِ البعيدةِ عنِ الحداثةِ، وأنَّها لا تواكبُ روحَ العصرِ، بلْ هيَ متخلِّفةٌ قديمةُ الطِّراز؛ لكنَّها في الحقيقةِ ليسَت كذلكَ، إنَّما هيَ من أرقى أنواعِ الفنونِ المذهلةِ حقًّا، والتي يمكنُ أن تحتلَّ مكانًا في جدرانِ وزوايا منازلِنا الحديثةِ، وتمزجَ بينَ العصرنةِ والعراقةِ دونَ أنْ تشوِّه المنظرَ العامَّ، لا بلْ وتترككَ أمامَ لوحةٍ فنيَّةٍ متكاملةٍ تحبسُ الأنفاسَ بدقَّتها وتناسُقها وجمالِيَتها، ولها أبعادٌ هندسيَّةٌ معقدةٌ تُضاهي أحدثَ التَّصميماتِ، إنَّها حالةٌ فنيَّة متفرِّدةٌ لا تشبهُ أيًّا منَ الفنونِ على مُستوى العالَم، إنَّها هويَّتنا الثقافيَّة وبصمتُنا المميَّزة، وإرثُنا التراثيُّ الذي ورثناهُ عنْ أجدادَنا وعاشَ آلافَ السِّنين، في حينِ أنَّ حضاراتٍ أُخرى اندثَرت بالكَاملِ، واختفَتْ كلُّ معالمِها أو أيُّ أثرٍ يدلُّ عليها.نُعاني اليومَ من معضلةِ الذَّوق الميَّالِ نحو الدِّيكور الغربيِّ، ونُكرانِ أصالةِ موروثِنا الثقافيِّ، فهلْ ينكرُ الابنُ أبَاه؟! نعَم، لقدِ استطاعَ مفهومُ العولمةِ صهرَ ثقافاتِ العالَم في بوتقةٍ واحدةٍ، حتَّى ضاعَت هوياتُها وطابَعها الفَريد، وكانَ «الإنتَرنِت» هوَ الأداةَ الفاعلةَ في تحقيقِ ذلكَ، إنَّا خُلقْنَا مختلِفين، وهذا ما يميِّز الوجودَ الإنسانيَّ، فما الفائدةُ منْ أنْ تتشابهَ الأممُ كلُّها في الطبائعِ والعاداتِ والألوانِ واللُّغةِ؟ تخيَّل أن تتناولَ نفسَ الطَّعامِ، وترتديَ نفسَ الملابسِ، وتتحدَّث نفسَ اللُّغة، وتشاهدَ نفسَ المشهدِ كُلَّ يومٍ؟ أينَ الحياةُ في حياةٍ كهذهِ؟! إنَّما الحضارةُ تنوُّعٌ واختلافٌ، وتبادلُ خبراتٍ وثقافاتٍ تُغني حياتَنا، ويفيدَ بعضُنا بعضًا.راسلَني فريقُ العملِ في برنامجِ الأممِ المتَّحدةِ الإنمائيِّ في الأردنِ عامَ (2021م) وذلكَ بالتَّعاونِ معَ أمانةِ عمَّانَ الكُبرى لنشرِ قصَّتي وتجرِبتي في الرَّسم ثلاثيِّ الأبعادِ ضمنَ مشروعِ كتابِ «قلبِ عمَّان»، منْ بينِ قصصِ خمسينَ شخصيةٍ مؤثرةٍ في المجتمعِ الأردنيِّ، وكانَ ذلكَ مسؤوليةً كبيرةً بالنسبةِ إليَّ؛ لأنَّه وضعَني في تحدٍّ دائمٍ لتطويرِ مهاراتي، والتَّوسُّعِ بنشرِ أفكارٍ مفيدةٍ للمجتمعِ من خلالِ أعمَالي، فأنا أؤمنُ بالفنِّ الهادفِ، وأنَّه وسيلةٌ لخدمةِ المجتمعِ والارتقاءِ به، إضافةً إلى أنَّه متعةٌ حسِّيَّةٌ تغذِّي الرُّوح، ولا غِنى عَنها في حياتِنا أيًّا كانَ شكلُه.اقترحَ عليَّ بعضُ الأصدقاءِ استخدامَ التَّقانة الحديثةِ مثلَ تقنيَّة الاِسْتِنْسِل المُفرَّغ والبْرُوجِيكْتُور في تنفيذِ رسُوماتي، وكانَ ردِّي ببساطةٍ أنَّ الرسومَ ستصبحُ حينذاكَ خاليةً منَ الإبداعِ البشريِّ والحسِّ الفنيِّ وتفتقدُ للرُّوح ويفقدُ الفنَّان متعةَ العملِ فيها والمعنَى منْ عملهِ والقدرةَ على الابتكارِ وتَرْكِ بصمتهِ الخاصَّة بهِ.ويسألُني كثيرونَ: "إلى أينَ ستصلُ بعملكَ في الرَّسم ثلاثيِّ الأبعادِ أمامَ كلِّ التطَّور الحاصلِ في هذا المجالِ وغزوِ المكنَنةِ والذَّكاءِ الصنِّاعي؟" فأُجيبهم أنَّه لَولا الحُلم مَا استطاعَ الإنسانُ الوصولَ إلى كلِّ هذهِ الحداثةِ رغمَ كلِّ المعوِّقات والتحدِّيات التي واجَههَا، فلنْ يثنينيَ أيُّ شيءٍ عن مواصلةِ الحُلم والتطوُّر في مجَالي وتطويعِ هذهِ الأدواتِ لنشرِ فنِّي. الفنُّ هوَ هويَّة الشُّعوب، لِذا أتمنَّى أنْ نحافظَ على جُذورنا وهويَّتنا الفنيَّة والثقافيَّة التي لا تتعارضُ مطلقًا معَ التطوُّر والحَداثةِ، بلْ على العكسِ، ففيها قيمتُنا وإثباتٌ للعالَمِ كلِّه أنَّنا مهدُ الحضاراتِ، وفنُّنا التراثيُّ الشرقيُّ فنٌّ هادفٌ يخدمُ المجتمعَ ويرتَقي بهِ، ويبتعدُ عنِ الإسفافِ والضَّحالةِ والعبثيَّة، تجتمع فيه الجِدَّةُ والأصالةُ في آنٍ معًا.بطبيعَتها، تنطَوي مهنتُنا على كثيرٍ من المشكلاتِ الحِرفيَّة والمهنيَة، لا بلْ والاجتماعيَّة أيضًا، وقدرةُ الحِرفيِّ على حلِّها وكسبِ رضَا جميعِ العملاءِ معادلةٌ صعبةٌ جدًا. وقد أكسبَتني مهنَتي مرونةً شديدةً روَّضتْ طبعيَ العجولَ ورُعونةَ الشَّباب فيَّ، ودقّةً وانضباطًا مهنيين جعلانِي موضعَ ثقةِ عُملائي. لِذا، فالشَّخصُ المتوازنُ والمؤثِّر في مهنتهِ إنسانٌ لا يشعرُ بتميُّزه، بل يرَى الآخرونَ ذلكَ في أعمالهِ وانضباطهِ بأخلاقيَّات المهنةِ وسُمعتهِ، وقدْ كانَ ذلكَ سببًا في أنْ تعرضَ عليَّ إحدى الكليِّات عملَ ورشةٍ لطلاَّبها في الرَّسم الهندسيِّ، رغمَ أنَّني لستُ أكاديميًا، إيمانًا منهَا بقيمةِ الخبرةِ في أداءِ التَّصاميم المعقَّدة مقارنةً بالتَّحصيل العلميِّ النظريِّ، وهيَ فكرةٌ يجبُ تعميمهَا في مجتمعاتِنا، سيَّما وأنَّها أضحَت المعيارَ الأهمَّ للتَّوظيفِ في كثيرٍ منَ الشَّركاتِ العالميَّة.ويَبقى السؤالُ في قصَّتي، بماذا تحلُم؟ حُلمي ثلاثيُّ الأبعادِ، بُعدُه الأوَّل شخصيٌّ، فأنا أحلُم بافتتاحِ معرضٍ خاصٍّ بي لتصميمِ الديكورِ ورسمِ الجداريَّات مثلَما يحلُم كلُّ حِرفيٍّ، أسجلُ من خلاله رقمًا قياسيًّا في مجموعةِ غينيسَ بتصنيفِ الرسم الإسلاميِّ ضمنَ الفنونِ التراثيَّة الُمستدامة. والبعدُ الثَّاني لحُلمي بعدٌ اجتماعيٌّ، أحلم فيه بتأسيسِ أكاديميةٍ للفنونِ أنشرُ فيها تجرَبتي الشخصيَّة بينَ الحِرفييِّن الشَّباب عنْ تطوُّر حِرفتي واختيارِي من قِبلِ برنامجِ الأممِ المتَّحدةِ الإنمائيِّ ضمنَ خمسينَ شخصيَّةٍ مؤثرةٍ في عمَّان، خاصةً أولئكَ الشَّباب الطَّموحينَ الحالمِينَ بمستقبلٍ أفضَل، الجادِّينَ في نفسِ الوقتِ في تطويرِ أنفسِهم وصقلِ مهاراتهِم.والبُعدُ الثَّالث لحُلمي هوَ لبلَدي ولمدينَتي الغاليَة عمَّان بالذَّات، التي أتمنَّى عليهَا أنْ تنشرَ وتعزِّز مورُوثنا الفنيَّ الثرَّ دونَ أنْ يتعارضَ ذلكَ معَ التصاميمِ الحديثةِ، ولتكُن الأماكنُ العامَّة مثلًا هيَ البدايَة، ارتقاءً بالذائقةِ الوطنيةِ من جهةٍ، وتوظيفًا للفنِّ كآليةٍ وأداةٍ لتوثيقِ جمالِ المدينةِ وتاريخِها منْ جهةٍ أُخرى. والأهمُّ منْ ذلكَ كلِّه، وعيًا بأهميَّةِ التراثِ في التنميةِ وتنشيطِ السيَاحة، وإنِّي أَرى في التراثِ بوابةً تلجُ منها حضارتُنا إلى الحضاراتِ الأُخرى، فلمَ لا تكونُ مدينَتي الجميلةُ سفيرةَ فنِّ الزخرفة الإسلاميَّة العريقِ الفريدِ على مستِوى العالَم؟لا شكَّ بأنَّ الأعمالَ التي نتحدَّى فيها ذواتِنا هيَ الأصعبُ، وبأنَّ دربَ الوصولِ من خلالها إلى هدفِنا أطولُ وأشدُّ مشقةً، لكنَّني أؤمنُ بأنَّ لكلِّ مجتهدٍ نصيبٌ، كما أؤمنُ أيضًا بأنَّ المُلتفِتَ لما حولهُ لا يصلْ. لِذا، وختامًا لقصَّتي، أقولُ دائمًا لنَفسي ولقارئِيها وكلِّ شابٍ مقبلٍ على عملٍ صعبٍ :" فلنبحَث في ذواتِنا عنْ مواطنِ القوَّة، ولا نغفل في الوقتِ نفسهِ عن مواطنِ الجمالِ، ذلكَ لأنَّهما مقوِّمان لا ينفصمانِ عن بعضِهما في النُّفوسِ الطَّموحةِ التي لا تعرفُ الاستسلام".