لا أدرِ بعد إن كان الكلام عن نفسي مهمًا، ولكن أرى في ذاتي امرأة يُستحق الحديث عنها، والنظر بتمعن إلى طريقها الطويل المرهق والذي يعصف بالعقبات…
عشتُ في جوف عالمٍ كل الكائنات بهِ مختلفة عني، فكان الانسلاخ بهم صعبًا ويحتاج إلى صلابة وشجاعة، ولكن عندما يجد الإنسان المحتاج يدًا حانية تمتد إليه، فإنه يستطيع أن يعبر بها ومعها كل الحواجز للوصول إلى ما يحلم به، وتتحوّل نَظرة الشفقة التي كان المفترض أن تكون إلى نظرة إعجاب مبهر، وهنا فقط يتحقق الانتصار، الانتصار الذي يكن بعون الله تعالى وإيمان الوالدين بابنتهما بصرف النظر عن ضعفها وهشاشة قلبها.
هند الشتيوي…
أنا شابة في التاسع والعشرين من عمري، روائية أردنية، صدر لي رواية "التقطت لك صورة" سنة 2018، وصدر لي أيضًا رواية "ثنائي القطب" سنة 2021، وكتاب "الحاضر رغم أنف الغياب"، وهو سيرة ذاتية عن والدي الأستاذ محمد خلف الشتيوي - رحمه الله وغفر له-.
أما عني، فأنا أعاني من شلل دماغي نتيجة إلى نقص أكسجين عند الولادة، أثر على النطق لدي بشكل كبير والحركة بشكل متوسط، فأصبح من الصعب على من حولي التواصل معي بالكلام إلا بعد اعتيادهم على طريقتي الفريدة.
كانت حياتي الدراسية في المدارس الحكومية، ولم ألجأ إلى المدارس الخاصة؛ لقناعة والديّ العظيمين بأنه يجب عليّ أن أندمج بالمجتمع، وألا يتم إقصائي لوضعي الصحيّ، بل وأنه ما دام العقل سليمًا، فلا ضرر بالجسد حتى لو كان هزيلًا، وأشكر الله أنهم كانوا على حق، وكانت نظرتهم سليمة بالتعامل معي من دون تمييز عن باقي إخوتي، وبالتالي زرع في روحي ثقةً عالية والإقدام على تحقيق الإنجازات.
كنت من ضمن الطلبة المتفوقين، ولا أنسى نظرة الإعجاب من المعلمات والحديث عن تلك الطالبة التي أعتقدن بأنها تحمل شيئًا من البلاهة، لكنهن صُدمنَّ بمستواها الدراسي وقدرتها على الإجابة عن أسئلة الذكاء، بل وإنًّني شَكلت صَداقاتٍ مُستمرة إلى الآن، وأعتقد أن السبب يعود إلى أنني لم ألفت النظر إلى إعاقتي، بل إلى عقلي، كما اعتدتُ على التعامل مع عائلتي.
حصلتُ في الثانوية العامة على معدل 85.8 في فرع الإدارة المعلوماتية، بعد معاناة في إيجاد الطريقة المناسبة لتقديم الامتحانات، حيث أقترح والدي التقديم على جهاز الحاسب الآلي ونقل إجاباتي على دفتر الامتحانات، وبالفعل قدمت بهذهِ الطريقة التي سعى إليها والدي رحمه الله.
أنهيت مرحلة البكالوريوس من الجامعة الأردنية في تخصص علم الحاسوب، وعملت في شركة أبحاث وتطوير الأعمال T2 السعودية في فرعها بالأردن ككاتبة محتوى إبداعي. وحاليًا، أنا موظفة في بلدية قضاء رجم الشامي ورئيسة لقسم الإعلام بها.
الكتابة في حياتي…
إنَّ الكتابة بالنسبة إلي وسيلة لتفريغ مشاعري على ورق، وعبرها يمكنني أن أعيش في جسد كل شخصية في الرواية التي أعمل بها. إنها النافذة التي أطل بها على الحياة التي أتمناها هربًا من الواقع والمواقف المؤلمة تختزلها الذاكرة، بل ويمكن أن تكون القسوة التي أمر بها استثمارًات جيدًا لمشروع الكتابة، فعندما تصب المشاعر المكنونة داخل المؤلف فهي تصل للمتلقي حتمًا.
وربما أكون ككاتبة إنسان تستغل ما تراهُ حولها من أشخاص وصعوبات لتحويلها إلى مشروع مكتوب على ورق، تُقدمه استنادًا إلى رأيها الشخصي بها وتقييمها ووجهة نظرها وشعورها.
كانت رواية التقطت لك صورة التي صدرت عام الـ 2018 عن وزارة الثقافة -سلسلة الكتاب الأول-، تتحدث عن معاناة ذوي الإعاقة وتعاطي المجتمع معه، وربما كنتُ أنا الشخصية الأولى التي يتم استغلالها لإصدار الإنجاز الأول؛ حيث أنني استثمرت وجعي على مدار الإثنيَ عشرة سنة التي عشتها قبل كتابة الرواية، فتجد الكثير من المواقف والمشاعر التي كُتبت هي انعكاس لأحداث عشتها، أما ما كتب غير ذلك فهو مسار الشخصية التي حركني ودفعني لتشكيل رواية كاملة تتضمن الخيانة والقهر والحب والفقر والبطالة والصداقة ودور الأهل في حياة شابة لذوي الإعاقة وأخيرًا اليأس والرحيل.
ثم انسابت طموحاتي لأعبر خط آخر في حياتي الروائية وأقدم شكل آخر للرواية وأبحث عن شخصيات واقعية لتوظيفها بشكل درامي في الرواية الثانية وهي "ثنائي القطب" -والصادرة أيضًا عن وزارة الثقافة-، والتي تناولت السوداوية التي تنتج عن التفكك الأسري والقسوة التي يتعرض لها الأطفال عند انفصال الوالديّن، ونظرة المجتمع لهم وطريقة تعاملهم معه واستيعاب حجم الألم الذي يتعرضون له، عوضًا عن قضايا الأمراض النفسية، التمييز على الأساس الديني، الحُب، النقص العاطفي، وغيرها من القضايا التي شكلت مجتمعًا كاملًا في رواية.
وأخيرًا، كتاب "الحاضر رغم أنف الغياب" الذي كُتب بعد شهريّن من وفاة والدي -رحمه الله- وعرضت بهِ بعض المواقف التي عشناها تحت ظله وعطفه ومدى عِظمها والأدوار التي لعبها في حياتي لأصبح ما عليّه الآن، فكان الحبيب والصاحب والمستشار والصديق والسند والمواسي والمُعلم.
والآن، وبعد عرض شيء من حياتي لكم، لا أعلم إن كانت نرجسيّة أم عدالة أن أتحدث عن نفسي، ولكن يكفي أنني واثقة بأنني بطلة من منظوري الشخصي على الأقل، واجهة الكثير من المعاناة بدءًا من أطفال حولها يقلدون مشيتها بسخرية، إلى معلمة تجاهلتها وهي تحاول الإجابة عن سؤال استعصى على الجميع فهمه، إلى فتاة تقول على مسامعها "أعانها الله على ما هي به".
اليوم، أقف على المفصل بين عمر العشرينيات والثلاثينيات، وأنظر خلفي فأرى إنجازات عجز عنها الكثيرين، ووجوه طيبة تلوح لي وهي مبتسمة بفخر، ووجوه صُدمت مما قدمت، وأرشيف من الأوجاع التي استعطت تجاهلها، ثم أعيد النظر للأمام وأطمح لما هو أفضل بإذن الله
أختكم…
الروائية هند محمد الشتيوي