لجنة التحكيمالصفوف 10 - 12
لجنة التحكيم تقيّم المشاركات
156 أعمال
الأردن|الصفوف 10 - 12
أسوة حسنة
Sarah Abu-yamin
تأليف Sarah Abu-yamin
أسوة حسنة

أسوة حسنة

لقد ظفر العالم العربي والإسلامي والغربي برموز تاريخية بارزة، أظهرت قدرتها على التمكين والإصلاح والتغيير من خلال إنجازات صنعوا بها عقول الشباب وأسبروا غوار نفوسهم وكشفوا عن خبايا الإبداع في أعماقهم ، وقد توالت مهنة القادة جيلا بعد جيل حتى صار مجد الأمم يحكى ويروى ويتناقل . فتوحات متتالية ومتعاقبة يستكمل فيها العظماء سير من قبلهم ، ولطالما ارتبطت الحضارة بمفاهيم القدوة والأسوة والمثال ؛ لأننا بالطبيعة الإنسانية نتطلع لشاهد ودليل يبرهن قدرتنا على السير والتقدم ، كما أننا نحتاج أن يشد القوي فينا الضعيف لكي ننمو ونسمو ونرتقي. وبالنظر إلى معالم الحياة في العصر الحديث يتضح أن من أشد احتياجاتنا وآكدها هو الاستناد إلى بطولات وقصص وسير نتشبث بها كلما زاغت بنا المعايير واختلطت الأحكام.

في بادئ نشأتي كنت _كغالبية الشباب في عصر التشتت _أتلفت بحثا عن نفسي ، أتساءل عن الحياة والوجود والمصير بكثرة لكني لم أعثر حينذاك على أحد يروي ظمأ الحقيقة في صدري ، كنت أتخبط في محاولة مني لامتثال تعاليم ديني وتحقيق طموحات طفولتي الطائشة ؛ فتارة تراودني الخيبة لتناقض موضعي مع الجهابذة والعظماء وتارة يعتريني اغترار بنفسي أمام الجهلة و السفهاء ، حالة من الضياع تملؤها الضلالات والخرافات المستجدة والمبتدعة وبالطبع لم يكن هذا ليجعلني موضع ثقة وأمان عند عائلتي ونفسي وكثير من الناس. أطلق صباحي أولى زفرات الأمل من رحم ركام الجهل حين تنهدت قائلة لأبي ذات ليلة : وما الصواب برأيك ؟ ماذا عساي أن أفعل ولأي طريق أتوجه؟. أزعجني اتساع عينيه حين رد علي قائلا: لست تفقهين من الحكمة شيء ، من أنت أصلا وأساسا وابتداء؟. في تلك الليلة شديدة الحر احتدم صراعي مع الحقيقة المنهمرة ينابيعها في كلمات أبي، وبعد طول عناء أقنعني ذاك اللقاء أنني في بحر حكمته أجد ضالتي ، توالت جلساتنا بعد ذلك منغمسين في فضاء صحبتنا الذي رسمته أخطائي وزلاتي وعثراتي ولقد غنمت بفضلها من كنوز أبي الخير الوفير.

إن ثقتي بأبي لا أستلهمها من إنجازاته الدراسية والعلمية والمهنية _رغم أنه من أقدر الناس في ذلك _ ؛ لأني أجد في صبره وحلمه وعفوه وحبه وبذله نجاحا أبلغ من المنصب والوظيفة. وقار أبي حين يحدثني والناس عن الإسلام كأنما كلماته وحي يلقى في صدر المستمع ، ثبات قلبه واستقامة جوارحه يبعثان على الراحة والطمأنينة حتى لسانه حين يلهج بذكر الله استشعر خشيته في فؤادي. في سمت وجهه هدوء يطغى على الخوف والحزن والألم ، الحكايات التي يرددها في مجالسه تشحذ العزائم وتستنهض النفوس لتحمل المسؤولية والوصاية والأمانة والخوف من المآل والمرجع لنستعد له ونعمل ، _تصعد فينا ذكريات طفولته حين يرويها في المنزل على حين غفلة _ الأمل والإصرار والصمود.

ما يشدني إلى أبي أن قلبه يجهل وحشة الحقد والكره والعداوة ، سمح ،كريم، ودود، يعفو ويغفر ويتجاوز عن الزلات والعيوب ، يدرك مكامن النفوس ولديه القدرة على فهمها ، وهو يقدر خبرته وعمق تجربته فلا يهدر نفسه فيما ليس فيه صلاح لدنياه وأخراه وللناس حوله ، شديد التمسك بمبادئه المتفقة مع شريعة الإسلام فلا يميل للفتن، والشهوات، والشبهات والتفاهات ؛إيمانا منه بعظم الغاية وسمو الهدف.إنني أرتحل كلما أجد ثغرا في عقيدتي لمحراب أبي ، أراقب جلساته في أيام الصوم ومواسم العبادة وأوقات استجابة الدعاء ثم أتبعه في التلاوة والتدبر والتجويد وأستوقف مع كتاب الله كما يفعل هو ، لأجد بعدها نور البصيرة ينبثق ويبزغ فجره فاتحا لي سبل الخير والفلاح.

أرى أبي مع الأقارب صدره رحب ويده واسعة ، وفي المنزل صبره دائم لا ينضب وحرصه مستمر لا يبهت وحبه خفي ولا يزول ، أبي علم في إحسانه لأهله وراية لا تخفضها النزاعات أو الخلافات ، يعي ما نحتاج ويمنحنا قبل أن نطلب. وبينما تتحرك بي رغبة المتعة والتجول والاكتشاف أغوص في صفحات أبي القديمة فأستثير ثقتي من مكمنها ، وأتأسى بنهج أبي طاردة عن قلبي مخاوفه مستمسكة بما قد عاشه ومر به . وعلى سبيل المثال تعلمت من الفترة التي سبقت دخول أبي الجامعة أن البساطة التي تزأر بها الفطرة السليمة في وجه التحديات والمتاعب والصعاب كفيلة بأن ترشد المرء، وتحميه، وتدله على الخير وتصون صلته بربه . سأسير على خطاه في علاقاتي وتعاملاتي ، فكل شيء في موازين أبي له قدره لا الإفراط ولا الشح ، ولا الإسهاب ولا الغلو ، تضحية ، واحترام ، وقبول ، وحب ، ونصح ، وتوجيه ، وإرشاد ، وصحبة وأمان باعتدال وصدق والتزام.

عاش أبي حياة القرية بظروف معيشية شاقة ومرهقة ، عرف نفسه بحبه ورحمته بأهله فشب على الطاعة والخدمة والشجاعة التي لم تخمد شرارتها في فؤاده ، كد وعانى وناضل كثيرا في سبيل أحلامه حتى لم يكن العمل في يده خيارا بل كان واجبا إنسانيا يجد فيه الرفعة والراحة والحرية والكرامة ، ولم يقتصر عمله على الدراسة والتدريس والبحث بل تعدد ليشمل واجبات التربية، والدعوة إلى الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من المشاركات الاجتماعية النادرة. يكفيني من الأسباب لأجعله قدوتي أنه قد ضحى_ بلا شك _ليجتبيه الله ويصطفيه ويجعل يده تنزل على موضع الحاجة وكلمته تسد مكان النقص ، الرشد الذي تتقد به عينا أبي لا يبلغه إلا من عاش جهاد النفس بإصرار وإيمان وثبات.


إنني أؤمن إيمانا جازما أن كل من يفتقد إلى الغاية في حياته سوف تستميله جيوش الاستغلال وتضمه إلى صف التفاهة والبلاهة ، وتجعله في الأرض ضالا و مضلا ، وفاسدا ومفسدا ، ومايؤسفني أننا نشهد في أيامنا هذه ثورة تستهدف ثروة الأمم ودررها المكنونة وأعني بذلك الشباب. لكننا ومن خلال توجيه بوصلتهم الحائرة نحو الاقتداء بالشخصيات والنماذج القديرة في الدين، والعلم والأدب نصنع جيلا يؤمن بالقيم والمبادئ ، ويقدر حجم المخاطر التي تتصيد ضياع المعاني الوجودية السامية ، كما أننا نغرس في شبابنا مركزية الأثر الذي تحدثه أعمالهم وإنجازاتهم .وبناء على ذلك فإنه يقع على عاتق القادة والمفكرين والمؤثرين مسؤولية الاضطلاع بدورهم في تقويم المحددات التي تجعل من الاقتداء بهم وسيلة نفع ونماء وتحسين . وفي سياق الحديث أعترف أن قامة الحلم عندي لم تكن لتناظر المعالي وتنافس الأضواء والسحب لو أن أبي الذي عددته قدوتي لم يكن صاحب خبرة اجتماعية ونفوذ فكرية واسعة.


إن إقراري بأبي قدوة وبطلا وعظيما لا تنحصر دوافعه في الأمان الذي يغالب ضعفي وصغر سني ، بل تتجاوز ذلك بقدرته على إصلاح القلوب ، واستنفار الهمم، وتقويم الأفهام وتوسيع المدارك بصيغة لا تخضع لحدود أو شروط ؛ كما أن دوره في التنمية يستند إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "فليقل خيرا أو ليصمت"فمواعظه،وخطبه،ونصائحه،وتوجيهاته لا تتعدى صبر الناس المحدود ولا تتحدى جهل أحدهم أو ضعف علمه ؛ رقيقة كأنها لمسة عطف حانية أو كتحية إيمانية طيبة. أبي منارة أستضيء بها في متاهات الفكر، والسلوك ، والفقه والخلق ، حفظه الله وأدام عليه عافية الرشد والتقى والثبات ، وأرجومن الله أن يملأ بلادنا برجال وآباء مثل أبي يحفظون علينا أمن نفوسنا وأرواحنا ، وإنني أدعو كل حائر في هذه الحياة أن يهتدي بكتاب الله لينير لمن خلفه سنين الفتن الحالكات.