كانت جدتي نجلاء الشخص الذي لا أستطيع الاستغناء عنه، صوتها الهادئ وابتسامتها الحانية كانا يلهمانني الطمأنينة في كل لحظة من حياتي. كانت دائماً الملجأ الوحيد الذي أهرع إليه عندما يتشوش عالمي، فلا أحد يستمع إلي مثلها، ولا أحد يُشعرني بهذا القدر من الأمان. رغم كثرة المسؤوليات والمشاغل، كانت تجلس بجانبي وتسمعني بإنصات، وكأن لا شيء في الدنيا أهم من مشاعري. ومن بين كل الأيام، كان رمضان يحتل مكانة خاصة في قلبها وفي قلوبنا نحن أحفادها.
لم يكن عددنا كبيراً؛ أنا، أختي ماسة، أخي أحمد، وابنة خالتي مريم والتي كانت بمثابة اختي الصغيرة. كنّا ننام جميعًا في منزل جدتي وجدّي طوال شهر رمضان، حيث كانت تُحضّر لنا كل أنواع الطعام الشهية في السحور. الطبق الرئيسي كان دائمًا هو البطيخ مع الجبن الأبيض المالح. لا أزال أذكر كيف كانت تجمع بين حبة البطيخ وقطعة الجبن وتطير بها إلى فم كل منا، وكأنها تصنع لنا ذكريات من طعم الطفولة. أما إفطار رمضان، فلا يضاهيه شيء. أعدت لنا أفضل الأطباق، وكانت الملوخية من يديها لذيذة للغاية. لكن بعد رحيلها، لم أعد أستطيع تناولها.
وبعد الإفطار، كانت تُحضّر لنا القطايف المحشوة بالجبن والجوز، وكنا نسير معها مشياً على الأقدام إلى المسجد لنصلي صلاة التراويح. لم يكن أحد منا يرغب في العودة مبكرًا، فكنا نكمل أكبر عدد ممكن من الركعات. ثم نعود إلى المنزل لطلب منها إقناع والدينا أن ننام عندها، ولم تفشل قط في تحقيق رغبتنا.
كنا ننام أنا وماسة ومريم على سرير ضيق في غرفة خالي. لم يكن السرير يتسع لنا، لكن ذلك لم يهمنا، فقد كنا سعداء للغاية ونحن متكدسات تحت غطاء واحد، نشاهد بعض المسلسلات حتى تدخل جدتي لنتخذ وضعية النوم المزيف، حتى نغط بالنوم دون الشعور بأنفسنا . ورغم كل هذا المرح، كانت تبدأ صباحاتنا معها بصوتها وهي تصرخ: "يا مشحرين، لساتكم نايمين!"، في إشارة مرحة إلى كسلنا.
لكن الحياة ليست دائماً كما نتمنى. قبل سنتين، جاء الخبر الذي زلزل عالمي؛ تشخيصها بسرطان البنكرياس في مرحلته الرابعة. لم أستطع أن أصدق. كيف لجسد قوي كجسدها أن ينهار أمام هذا المرض اللعين؟ كانت دائماً أقوى منا جميعاً، لكن مع مرور الأيام، رأيت الجبل ينهار.
في عيد ميلادها الأخير، عندما التقطنا صورة عائلية، وقفت بجانبها واحتضنتها بحب يخفي حزناً عميقاً. كنت أحاول كتم دموعي حتى لا تراها، فلا أحب أن أضعف أمامها. كانت تلك آخر لحظة سعيدة تجمعنا جميعًا تحت سقف واحد.
في لحظاتها الأخيرة، كنت أذهب إلى غرفتها لأجلس عند قدميها وأرغب أن أبقى بجانبها للأبد. كل ما كنت أريده هو أن أشعر بوجودها، لكن الألم كان يقوى عليها. حين ساءت حالتها وبدأت جلسات العلاج الكيميائي، لم تسمح لي أمي برؤيتها كما كانت، لأن جدتي لم تكن لتتحمل أن نراها في ضعفها. ومع ذلك، عندما رأيتها أخيرًا، رغم شحوب وجهها واصفرار عينيها، أهدتني ابتسامة أخيرة.
لن أنسى تلك الليلة الباردة، حين كنت أدرس لامتحاني، سمعت أبي يخرج ليذهب إلى المستشفى. طلبت منه أن يأخذني لأرى جدتي، فقد اشتقت إليها بشدة. وعندما وصلنا، وجدتها نائمة، لا تشعر بشيء. عانقتها وودعتها دون أن أقول وداعاً.
في اليوم التالي، عندما كنا في السيارة مع أبي،عائدين من المدرسة، أخبرنا: "جدتكم نجلاء ماتت." لم أستطع أن أصدق. قلت له إنني أعلم أنه يكذب. لم أكن أعي الكلمات التي تخرج من فمي. شعرت وكأن شلالاً من الدموع ينهمر دون توقف. كان الألم لا يوصف.
لم أصدق الخبر حتى ذهبت إلى منزلها في عزائها، حيث كان المكان خاوياً، خالياً من الروح التي ملأت حياتي بالفرح. هناك، جلست على سريرها، تحاول روحي الهروب من الواقع عبر النوم.
ولكن، من بين كل من تألم بعد رحيلها، كان جدي هو الأكثر تأثراً. لم أكن قد رأيته يبكي من قبل، لكنه تحطم تماماً بعد وفاتها. كانت جدتي رفيقة دربه، ومؤنسته في وحدته. بعد رحيلها، أصبحت حياته خالية من الفرح، وكأن البيت ذاته قد فقد روحه. نظرات الحزن في عينيه، التي كانت واضحة منذ لحظة موتها، لا تزال ترافقه إلى اليوم. لم يعد المنزل كما كان، بات كئيباً، مليئاً بالصمت بعد أن غاب صوتها وضحكتها.
مرت الأيام، ولم أعد أذهب إلى بيت جدي، الا عندما اريد ان اتذكر تلك اللحظات الجميلة الي كانت تجمعنا مع جدتي ، ولا استطعت تناول الملوخية مجددًا، وكأن كل طقوسنا توقفت بغيابها. ذات يوم، فتحت خزانتي لأرتبها، ووجدت كيسًا مليئًا بالحجابات التي أهدتني إياها قبل رحيلها. تذكرت قولها: "بدي أشوفك لابستيهم." شعرت بالندم لأنني لم أرتديهم حين طلبت مني ذلك، والآن كل ما أريده هو أن تراني ارتديهم.
ما زالت رائحتها عالقة في ذاكرتي، ولن أنسى ابتسامتها الأخيرة التي أراها في كل لحظة حزينة.
الحياة تستمر بعد رحيل الأحباب، لكنها تترك فراغًا لا يمكن ملؤه. لن تعود تلك الأيام التي كانت تملؤها جدتي بحبها ودفئها، لكن ذكراها ستبقى خالدة في قلبي. هي لم تغب عني يومًا، فما زال طيفها يزورني في أحلامي، وصوتها الحنون يهمس في أذني كلما ضاقت بي الحياة. وإن كانت جدتي قد رحلت بجسدها، إلا أن روحها لا تزال تحيا معي في كل لحظة أعيشها. سأرتدي حجاباتها بفخر، وسأعيش كما كانت تحب أن تراني، قوية ومؤمنة بأن الحب يظل أقوى من الموت.