ليس بالضرورةِ أن يرتديَ البطلُ وشاحًا يسدلُه خلف جسده ليكونَ بطلًا، ولا بالضرورةِ أن يكونَ مفتولَ عضلاتِ الجسد ليُعد بطلًا، لا داعي أن يكونَ غارقًا في صفاتِ الكمال، قد تكفيه صفةٌ أو صفتان، إذًا.. من هو البطل؟
عادةً ما يترعرعُ الصبيُّ في كَنَفِ عائلتِهِ آخذًا والده مثله الأعلى، ينبهرُ بجسدِه الضخم، وبلحيتِه الكثيفةِ وصوتِه الخشن، أمّا حين يتعلّقُ الأمرُ بالمصلحةِ كالطعامِ والمرضِ فمن غيرها يلجأ لها؟ ينشأ هذا الصبيُّ محبًا لإمه حبًّا جمًّا ومعجبًا بأبيه إعجابًا وثيقًا!
وبالرغمِ من كوني فتاة، إلا أني لم أخرجْ عن إطارِ ذاك الصبي، الفرق بيني وبينه أنه من شدة إعجابه بأبيه باتَ يريدُ أن يصبحَ نسخةً طِبْقَ الأصْلِ عنه، أمّا أنا فلا أريدُ من والدي سوى أن تطولَ أيامُهُ المتبقيةُ و أن يرشدَني ويوجهَني برفق، أريدُه مصدرَ الرعايةِ قبل الحماية، والحنيةِ قبل التربية، أريدُه ألّا يبخلَ عليّ بأيِّ علمٍ يملكُه.
نشأ والدي ابنًا أوسطًا بين أربعةِ إخوة ثلاثةٌ منهم إناث، ولو سألني أحدُهم عن أعجبِ شيءٍ في حياةِ والدي لأجبتُ بلا تردد: الاستقامة وعناد الرأي.
إحدى القصصِ التي قصّها علي أنه ذاتَ مرةٍ حَضَرَ وعائلتَه عرسًا لأحدِ المعارف، وفي العرس تمَّ توزيعُ هدية على جميع العائلاتِ الحاضرة، وهي مجسدٌ لرأسِ فهدٍ منحوتٌ بدقةٍ وإتقان، يُظهرُ تفاصيلَ وجهِه، المجسدُ كبيرٌ وثقيلٌ ويبدو غالي الثمن حسب وصفِه، حين عادَ إلى البيت قرر تقمُّصَ شخصيةِ سيدِنا إبراهيم عليه السلام، وتوجّهَ برفقةِ عمتي إلى فناءِ المنزل، واستطاعا سويةً أن يصيِّراه من مجسدٍ متقنِ الصنعِ إلى قطعِ خشبٍ متكسرةٍ ومتناثرة، يقولُ والدي:"لم نُبقِ له ولا ملمحًا واضحًا، شوهّناه تشويهًا !" كان والدي آنذاك ابنَ أربعةِ عشرَ عامًا، لا يفقهُ بقصة سيدنا إبراهيم عليه السلام فحسب، بل يفقه أيضًا بحُكم الرسمِ والنحتِ لذوات الأرواح.
ليس عجيبًا أن نسمعَ عن شابٍّ نشأ في طاعةِ الله، العجيبُ بالنسبة لي، من أين تعلمَ والدي رباطةَ الجأشِ تجاه الدين؟ رباطة جأشه قوية حَدَّ جعلِنا نظنُّ أن تربيتَه كانت قاسيةً في ما يتعلقُ بالدينِ والالتزام، لكن رِباطةَ الجأش تلك مُسبِّبُها الرئيسيُّ هو محبةُ الله له ورحمتُه أنِ اصطفاهُ ليكونَ عبدًا ينشأ على كُرهِ المعصيةِ ورفضِها قطْعًا، ورفْضِ الفِتَنِ بأنواعِها ومحاربةِ شتّى أنواعِ الضلالِ والكفر، وقد توسّعَتْ محبةُ الله تلك لتشملَني، كتبني اللهُ ابنةً لهذا الرجل.. لهذا البطل.
ألاحظُ عليه قِلةَ كَلمِه، وخَفْضَ صوتِه، ورَزانةَ ألفاظِه، أتمعّنُ في حُسنِ أخلاقِه، وثباتِ رأيِه، وصحّة أسُسِه التي يسيرُ عليها، وأكثر ما أحبُهُ وأبغضُهُ بنفسِ الوقتِ هو فوزه بأيِّ مناظرة، تقولُ أمي أنه ذاتَ يومٍ اجتمعَ مع مجموعةِ رجالٍ من أقاربِه، وارتفعتْ أصواتُهم حتى تعدَّتْ جُدرانَ مجلسِهم، فسمعتْ أمي مناظرتَهم بأحدِ المواضيع، وما كان واضحًا لها من المناظرةِ أنها تتكونُ من فريقين أحدهما مجموعة الرجال والآخر والدي وحده، تبيّنَ لها في نهايةِ المناظرة استسلامُ الفريقِ الأولِ وانتصارُ فريقِ والدي وحدَه، وصمتُهم أمامَ حججِه، تقولُ أمي أنها لم تتعجبْ عجبًا كثيرًا فقد سبَقَ وهزمَها في نقاشات شتّى، مع العلمِ أنَّ ملاسنةَ أمي ليستْ بالشيءِ اليسير، فهي الأخرى تستطيعُ إخراجَ حجةٍ من تحت بِلاط الأرضِ وحشرَ مُحدَّثِها في الزاويةِ بتلك الحجة، إلا أنها خسرتْ أمامَه كثيرّا في مناظراتِهما. أحبُّ مهارتَه تلك لأنها تجعلُه بارزًا في أيِّ مجلسٍ يجلسُه بإتقانِه في الحديثِ و رقيِه في الأسلوب فأحاول دائمًا أن أتعلمَ تلك البراعةَ منه، بأنْ أُناظرَه بشتّى المواضيع، وإنْ تطلبَ الأمرُ ادّعاءَ وجهةِ نظرٍ بعكسِ وجهةِ نظره رغم أنّي أتبنّى نفسَ رأيِه، كي أعلمَ كيف سيردُ علي، و أبغضُ موهبتَه أيضًا لأنه لم يخسرْ أمامي يومًا في نقاش، بأيِّ موضوعٍ كان، ما أثبتَ لي وسامةَ والدي العقليةَ التي تبهرُني يومًا بعد يوم.
"من شابهَ أباه فما ظلم" أرى والدي في كثيرٍ من تصرفاتي، أحيانًا أسمع صوتَه بين تزاحمِ أفكاري، فأدركُ كم طَبَعَ والدي نفسَه في عقلي، وأحبُ شدةَ أثرِه في نفسي حقًا وفي نفس الوقت لا يعجبُني الأمرُ دائمًا، فقدْ لاحظتُ مؤخرًا أن كثيرًا من معتقداتِه التي لم أتقبلْها في ما مضى بتُ اليوم أتبنّاها لا شعوريًا، وحدثَ مع والدتي نفسُ الأمر، بدأتُ ألحظُ أن كثيرًا من أفكارِها التي لم أقتنعْ بها يومًا ما هي اليوم إلا جزء من أفكاري، ألهذا علاقة بالجينات مثلًا؟ هل سنصبحُ نُسَخًا عن آباءنا وأمهاتنا في المستقبل؟ وهل هذا سببُ عدمِ كسرِ حلقةِ كثيرٍ من العاداتِ على مرِّ الزمن؟ أبهذا سُلبتْ مني حريةُ اختيارِ رأيٍ أتبنّاه حسب "منظوري" الشخصيّ للأمور؟ لم يكنْ ذاك مقصدي منذ الطفولة، كنتُ أريد مهارةَ الملاسنةِ والإقناعِ منهما، فوجدتُني اقتنعتُ. بعد مدة أدركتُ أمرًا آخرًا، فوالدي مثلًا، معظمُ معتقداتِه الخاطئة بنظري أو المبالغ بها مبنيةٌ على أساساتٍ صحيحةٍ مئة بالمئة، أساسات من النادرِ أن يبنيَ عليها أحدٌ معتقداتِه في هذا الزمان، أساسات جميلة مثيرة للاهتمام، ولكنَّ بناءَه لها تشوّه قليلًا بنظري بمرحلةٍ من المراحل، أستطيعُ أن أنفصلَ عنه وألّا أتّخذَ سوى أساساتِه الفكرية، أما البناء فهو مهمتي، وهكذا عاد ضوءُ الحريةِ يُنيرُ أفكاري مع طابعٍ من والدي سأظلُ ألاحظُه ما حييت.
أظن أنه عندما يتخذُ أحدُهم بطلًا له فهذا يعني أنه معجبٌ بتفاصيلِ هذا البطل، من الواضحِ في ما سبقَ أني معجبةٌ بتفاصيلِ والدي الذي ذكرتُه في سبيلِ المثال، ولكني معجبةٌ ببعض تفاصيل أمي، وبعضِ تفاصيلِ أختي، و بعض تفاصيلِ صديقتي، وتفاصيل بعض من معلماتي، وغيرهم، إن اخترتُ واحدًا منهم أكون ظلمتُ آخرًا.
من هو البطلُ الحقيقيّ؟ في المعجمِ البطلُ هو الشجاعُ المقدام، ولكن قد لا يبرعُ أحدُهم إلا بمقصِّ الجراحة والملقط الجراحيّ لكن من ينكرُ أنه بطلٌ ينقذُ الأرواح؟ أو قد لا يبرعُ البطلُ بأيٍّ من الحرف، ولا يملكُ من المالِ إلّا الشيء القليل، لكنه بوظيفتِه المتواضعة يخافُ اللهَ في أسرته ولا يسقيها إلا ماءً حلالًا، قد يكونُ البطل امرأةً جاهدتْ في الحملِ والإنجابِ مرةً أو مرتينِ أو عشر في حياتِها كي تشاركَ في بناء صفِّ الجيلِ القادم، من الممكنِ للبطلِ أن يكونَ طفلًا بشوشًا عزيزَ النفس و بالرغم من أن أفراد أسرتِه بكاملها قد رقدوا تحت ركام بيتهم حين قُصِفَ وتركوه يواجه ما تبقّى له من عمر وحيدًا، إلّا أنه ظلَّ بسّامًا!
البطلُ الحقيقيُّ هو من صنع لوجوده قيمة، معنى، من أثبتَ لِمن حوله عزيمتَه وإصرارَه، البطلُ من يقدّم الخيرَ للناس ولا ينتظرُ مقابلًا، و من يضحّي لأجلِ الآخرين، ويسامحُ ويعفو مهما تلقّى من ظلمٍ وإساءة، البطل من يتمنى لغيره تمامًا ما يتمناه لنفسه، كلُّها صحيحة، ولكن الأشملَ بنظري أن البطلَ هو من لا يمرُّ بحياتك عابرَ سبيل، بل يطبعُ أثرًا طيبًا، البطل.. هو الذي يُعلِّمُ كلَّ من مرَّ بحياته درسًا قيمًا راسخًا مهمًا! ولو تفكرُ مليًا بالأمر وجدتَ أن كلَّ من مر بحياتك علّمك درسًا معينًا، ربما درسًا قاسيًا أو ليِّنًا، أهذا يعني أن كلَّ من مرَّ بحياتي هو بطل؟ تقريبًا، إن تعلمتُ منه درسًا فهو بطل في قصتي.
العاملُ المشتركُ بين الجرّاح والأبِ الفقيرِ والأمِّ والطفلِ البسّام، أنّ لكلِّ واحدٍ منهم عبرةً مهمةً قدّمها لغيره حتى لو لم يقابلْه في حياته، الجراحُ أنقذَ من بعد الله عشرات المرضى من الموت، مهمة شريفة بحق، الأبُ الفقيرُ لا يرضا إلّا بعرقِ الجبين، علمنا عزةَ النفس وتقوى القلب والتضحيةَ لمن نحب وحِسَّ المسؤولية، الأم علمتنا الحنانَ والعطفَ الممزوجين بالشدة، علمتنا معنى الحبِّ الحقيقي، والطفلُ البسّامُ جعلنا نخجلُ من أنفسِنا عبوسها الدائم ولم نذقْ ربعَ همه! علمنا أن المضيَّ قُدُمًا يحتاجُ إلى نفسٍ نشيطةٍ وابتسامةٍ لا تُنزلُها الظروفُ الصعبة، أول ما يجول بفكري حين أراه مبتسمًا رغم ما حصل له، "وأنت الذي لم يعدْ فيك شيءٌ ملتئم أي صبرٍ هذا الذي أبقاك مبتسمًا؟" بابتسامته نفسِها أجابني، ذاك الصبرُ الذي يعادلُ جبالَ الأرض في وزنه هو الذي أبقاه مبتسمًا، عرفتُ عن صبر هذا الطفل وإرادتِه القويةِ رغم أنه لا يعرفني ولم نلتقِ من قبل.
علمتني أمي تفاصيلَ أعمال المنزل والسرَّ في لذة الطعام والتمييزَ بين الصواب والخطأ، حتى من أخطاءها علمتني، علمتني أختي المثابَرةَ والجِدَّ وطيبة القلب، علمتني معلمتي الاهتمامَ في الآخرين وتقديمَ الفائدةِ لمن هو بحاجة لها، ذكّرني جاري المسيحيّ نعمةَ الدين الذي أعتنقه، علّمني الغنيُّ الذي لا يشبع ضررَ الجشعِ وحبِ المال، علمتني كثيرٌ من الفتيات نعمةَ الأخلاق والمبادئ، وكثيرٌ منهنّ علَّمْنَني الاقتداءَ بهنَّ في كثير من الأمور الجيدة، فمثلًا إحدى الفتيات علمتني ذات يوم درسًا عن خطَرِ تعلقِ القلبِ بغير الله، وأذكر أن أخرى علمتني درسًا في أهمية طلبِ العلم بشتى أنواعه وأن كتبَ ابن القيم تستحق القراءة، مع العلم أن الثانيةَ هي فتاة من المدرسة وليست في نفسي فصلي ولا أظن أنها تعرفني جيدًا ولكني أرى اهتماماتِها من بعيد فقط، علمني أحدُهم أن بابَ التوبة مفتوحٌ للجميع طالما تشرقُ الشمسُ من مشرقها، مهما كثرتْ ذنوبي، مع العلم أن ذاك الشخصَ لا يعرفني ولم يعطِ درسًا عن التوبة، ولكنه نشر مقطعَ فيديو لصوتِه وهو يتلو آيات مؤثرة من سورة الفرقان، وصادفَ أني رأيتُ مقطعه وقلبي يعتصر ندمًا من ذنب أرتكبه، طمأنَ بجمال صوته قلبيَ المذنبَ المتألّم، فوالله إن صوتَه العذبَ بترتيل تلك الآيات كان سببًا من بعد الله لهدايتي منذ ذلك اليوم، وأخيرًا، علمني والدي الاستقامةَ وحبَّ الدينِ وألا أجعلَ الدنيا أكبرَ همي، وقدرةَ الإقناعِ والحديث.
كلّهم أبطال في قصتي، وغيرهم الكثير، لأني أنا جعلتُهم كذلك بتعلمي منهم، ووالدي الذي سردتُ جزءًا من سيرتِه هو أحد أهم أولئك الأبطال. لا أقصدُ أبدًا تغييرَ معنى البطل في المعجم، ولكني أعتقدُ أننا جميعًا لو عزمْنا على تعلمِ دروسٍ من كلِّ شخص يمر بحياتنا فأنا أجزم أننا سنكون شاكرين لكل شخص عبَرَ سبيلَنا فلولاهم من بعد الله لما تعلّمنا من خبراتِهم، سواء أكانت تلك الخبرات تحت مسمى "لا تخطأْ خطئي" أو مسمى "افعلْ خيرًا كما فعلتُ"، وبهذا نكون جميعًا أبطالًا بقصةِ أحدهم.
بالنسبة إلى السيئين من البشرِ فلن أعدَّهم أبطالًا، كلُّ شخص عرفتُ عنه في حياتي أو سأعرفُ عنه سوف أبحثُ بقدر استطاعتي عن الدرس الذي سأتعلمُه منه، أمّا الوحوشُ التي صادف وجودُها على هيئةِ بشر سيعلمونني دروسًا قيمة من سوءِهم إن أردتُ ذلك، ولكنهم ليسوا أبطالًا بالطبع.