في الثامن و العشرين من شهر تموز عام (1983م) , ولدت بطلتنا في قرية بيت ايدس في محافظة إربد الأردنية , في عائلة ملئها الدفء و الحنان , و هي الإبنة الوسطى في عائلة تتكون من ثلاثة عشر فردا , أربعة إخوة و ستة أخوات , و قد سميت بطلتنا بميادة نسبة إلى مطربة الجيل "ميادة الحناوي" , عاشت ميادة طفولتها بين الأشجار و أكرام الزيتون و معرشات العنب , و التحقت بمدرسة بيت إيدس الحكومية , لم تكن الدراسة على قائمة أولوياتها في الحياة , إذ كانت اهتماماتها موجهة نحو اللعب و المرح , و لكن تعليقا واحدة غير كل ذلك . عندما كانت بطلتنا في الصف السادس الإبتدائي لاحظت احدى معلماتها ذكاء ميادة المميز , فشجعتها على الدراسة , و هذه كانت مقدمة لما سيجري بعدها .
وضعت الطفلة الحلم نصب عينيها , و هو التفوق الدراسي , و دراسة الطب البشري , و في العام التالي لاحظ الجميع التغير الملحوظ فيها , فقد كانت في ذلك العام الأولى على مدرستها , و التحقت بالكشافة الأردنية , فبذلك كانت بطلة للعديد من المسرحيات و مقدمة لكثير من الحفلات . و كان هذا النجاح سببا لتولد الحقد و الكراهية في نفوس زميلاتها في المرحلة الثانوية مما أدى الى إصابتها بإكتئاب حاد , و مشاكل في المعدة , و القولون العصبي , فكان هذا سببا في تراجع مستواها الدراسي , و في العام التالي ظهرت نتائج الثانوية التي ستحدد ما اذا كانت ستلتحق بكلية الطب هذا العام , كانت ميادة قريبة جدا من الهدف , فقد حصلت على نسبة (94) التي لن تدخلها كلية الطب , و بينما كان والداها يواسيانها , مرت لحظة اليأس علها بسرعة كضربة على و جهها لتفيق من هذا الكابوس بسرعة , ففي صباح اليوم التالي بدأت ميادة بالدراسة استعدادا لإعادة العام الدراسي . و بعد عام قضته ميادة بين كتبها , تكرر المشهد ذاته فتاة بمشاعر مختلطة , بين القلق , التوتر , و الحماس , اللحظات تمر أطول من المعتاد , و عيون سهرت تلك الليلة في التفكير , و قلب يدق بسرعة , و أذن تسمع كلمة (الأولى) , في تلك اللحظة ارتاح قلبها و ادركت أن الحلم أصبح أقرب من أي وقت مضى , حينها كان والدها الرجل الأسعد على هذا الكوكب , فقد تحقق حلمه كما تحقق حلم ابنته .
يبدأ هنا فصل جديد من حياة بطلتنا , فهو بداية و خطوة في تحقيق حلمها , فبعد ظهور القبولات الجامعية التي أشارت الى أن معدل ميادة سيمكنها من دخول تخصص الطب في أي جامعة تريد , فقدمت على واحدة من أفضل الجامعات في المملكة , و هي جامعة العلوم و التكنولوجيا , و لكن القدر شاء , بأن يحدث خطأ في التقديم , لتصدم بقبولها في جامعة مؤتة التي تبعد عن منزلها في بيت إيدس ما يقارب الأربعة ساعات بالسيارة , لكن بعد كل ما مرت به من صعوبات لن يشكل هذا عائقا بالنسبة لها , فوجدت أن الحل الأنسب لهذه المشكلة هو أخذ سكن في محافظة الكرك حيث مؤتة , و بالفعل هذا ما قد حصل ,و كما نقول دائما أن الخيرة فيما إختاره الله فكان لذلك أثر كبير في صقل شخصيتها .
بدأت ميادة رحلتها الجامعية و كانت الطالبة المجتهدة التي لا ترى إلا مستقبلها في الأفق .
بعد عدة أشهر من بدء حياتها الجامعية , أصيب الداعم الأول لها (والدها) بسرطان الرئة , و قد كان الخبر كالماء المثلج الذي سكب عليها فجأة , و دون سابق إنذار , بل ليس فوقها وحدها , و إنما صدمة على جميع أفراد العائلة , و قد كان أبو حاتم (الوالد) الأب الحنون الطيب الذي عشق الوطن و الأرض ,و كعادته بروحه المعنوية العالية كان يواسي أبناءه عوضا على أن يواسوه , كما أمضى حياته يفعل الخير , الذي ذكره الناس به دائما , و لكن بعد أربعة سنوات من الصراع مع مرض السرطان , انتقل إلى رحمة الله تعالى , و كان أخر ما أوصى به هو عدم إ خبار ميادة بخبر وفاته , إذ كانت ابنته حينها في امتحانات العام الخامس من دراسة الطب البشري , و هذا ما حصل , إذ اتصلت والدتها عليها لتخبرها بأن لا تأتي في الإجازة لزياراتهم بحجة انشغالهم و أنها لن تتمكن من الدراسة في ضوء هذا الإزعاج , و هذا ما جرى , حيث إنها ذهبت إلى منزل إحدى صديقتها في تلك الإجازة , و بعد إنتهاء الإمتحانات عادت ميادة إلى منزلها , و لكن بمجرد أن دخلت قريتها شعرت بالوحشة , شيء مختلف لم تستطع تميزه في البداية , دخلت إلى المنزل و على غير العادة لم ترى والدها كما عهدته أن يكون جالسا في حديقة الدار تحت عريشة العنب و الأشجار من حوله , لكنها إفترضت حينها أنه منشغل هذه المرة و لم يتمكن من انتظارها في حديقة الدار كما عهدت خلال الخمسة سنوات السابقة, تقدمت إلى المنزل بحثا عن والدها لتخبره بنتائجها لكنها لم تجده في المضافة ايضا , صوت من خلفها يخبرها بصدمة لم تحسب لها حسابا , مرت الأيام التالية لميادة , و هي تستذكر والدها في كل زاوية من زوايا الدار التي بناها بيديه , و قلبها المكسور لن يضمده سوا حنان أمها , فهي الأم الحنون التي لا يهمها في الدنيا سوى أولادها , فهي الحضن الذي يحتويهم جميعا في كل أحوالهم .
مرت العطلة , و بدأ العام الأخير لها في الجامعة , الذي بدأته بقوة أكثر من ذي قبل , قوة لتحقق فيها الحلم , ليس حلمها فقط و إنما حلم والدها أيضا , بأن تصبح طبيبة في الخدمات الطبية برتبة عسكرية على كتفيها , مثل والدها الذي كان رائدا في الجيش . مر العام و مرت اختباراته , وحصلت ميادة على مرتبة الشرف , فهي من أوائل الدفعة الأولى من دفع الطب البشري في جامعة مؤتة كما نتوقع منها , و كانت هذه الفرحة الأولى للعائلة منذ وفاة والدها , و حضروا جميعا حفل التخرج , و ملئ قلوبهم الفرح و الفخر بها , و لم تستذكر ميادة حينها سوى فرحة والدها لو كان بينهم و نظرة الفخر في عينيه .
لم ينتهي الحلم هنا بل قد بدء للتو , حيث إنها بدأت مسيرتها المهنية في مستشى الأمير راشد العسكري في محافظة إربد , لم يكن التدريب سهلا كما تخيلت , فقد كانت تعتقد أن مرحلة الدراسة الجامعية هي أصعب مراحل الدراسة , لكن التدريب , و الإقامة في المستشفى كانا أصعب منها بمراحل , لكن لا بأس فعلى الرغم من صعوبة العمل إلا أن لذة تحقيق الحلم تمحو مرارة الجهد , و التعب , و العمل لساعات طويلة متتالية , تعرفت خلالها على زوجها الدكتور المهندس طارق الشواهين , الذي بدأت معه مرحلة جديدة من الحياة , و قد كان نعم الزوج الذي يتمنى لها النجاح دائما , و يساعدها في تحقيقه , بدأ الإثنان حياتهما من الصفر ليصلا إلى العلا معا . وفي أول أيام عيد الأضحى المبارك عام (2008) أنجبت ميادة مولودتها الأولى و أسمتها "ضحى" نسبة إلى ذلك اليوم , الذي مر عليه ستة عشر عاما , ميادة اليوم طبيبة إستشارية في طب الأطفال , و رئيسة لقسم طوارئ الأطفال في مستشفى الملكة رانية العبد الله للأطفال , و أم لخمسة أطفال , و إبنتها ضحى تكتب لها هذه القصة بعنوان (رحلتها بقلمي) , أمي العزيزة أكتب هذه القصة لكي بكل فخر , و أعدكي بأن أجعلك فخورة بي اليوم و غدا و كل يوم .