
"وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ". فِي قَلْبِ الْجِبَالِ الشَّامِخَةِ، حَيْثُ تَلْتَقِي السَّمَاءُ بِالْأَرْضِ، وَفِي دَاخِلِ أَعْمَاقِ التَّارِيخِ الْأُرْدُنِّيِّ، وَحِينَ تَتَشَابَكُ خُيُوطُ الْبُطُولَةِ وَالتَّضْحِيَةِ، وُلِدَ كَايِدُ مِفْلَحُ الْعَبِيدَاتِ، فَارِسٌ يَحْمِلُ هُمُومَ الْوَطَنِ فِي صَدْرِهِ. كَلِمَاتُهُ كَالْأَشْعَارِ تَرْوِي حِكَايَاتِ الْأَلَمِ وَالْأَمَلِ، وَتَنْسِجُ مِنْ خُيُوطِ النِّضَالِ قَصَائِدَ تُضِيءُ دُرُوبَ الْحُرِّيَّةِ. هُوَ صَوْتٌ يَصْدَحُ فِي وَجْهِ الظُّلْمِ، لِيُصْبِحَ رَمْزًا لِلصُّمُودِ فِي زَمَنِ الْمِحَنِ. فِي كُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا، يَكْتُبُ تَارِيخًا جَدِيدًا مِنَ الْكِفَاحِ، وَيُجَسِّدُ حُلْمَ الْأَجْيَالِ فِي التَّحَرُّرِ وَالِانْعِتَاقِ.
كايِد مفلَح الْعبيدَات وُلدَ عَام 1868 فِي بَلدةِ كفر سُومٍ فِي مُحافظَةِ إِرْبدَ، تلَقَّى تعْلِيمَهُ فِي الْكتاتِيبِ وَظَهَرَتْ عليْهِ عَلاماتُ النُّبُوغِ منْذَ سِنِينَ عُمْرِهِ الْأُولى حيْثُ حَفِظ الْقُرْآنَ في سنِّ الْعَاشرَةِ، كما ظَهَرتْ عليْهِ عَلامَاتُ الزَّعَامةِ مُنذُ الصِّغَرِ، وما أَنْ بَلَغَ العِشْرِينَ مِنْ عُمرِهِ إِلَّا كَانَ ذُو شَأْنٍ كبِيرٍ حَيْثُ أَصْبحَ كَبِيرَ قَوْمهِ وَتحَوَّلَ مَع الْوَقْتِ لِأَبْرَزِ الزَّعامَاتِ الْبَارِزةِ فِي شَمالِ الأردُنِّ وَفِلَسْطِينِ. كَان كَايد الْعبيدات مِنْ رِجَالِ الْحَركةِ الْوطنِيَّةِ الْعَرَبيَّةِ الَّتي تَنَبَّهتْ لِلْخطَرِ الصَّهْيونِيِّ. شَهِيدُنَا مُولَعًا بِالتَّارِيخِ وَالشَّخْصِيَّات التَّارِيخيَّةِ الَّتِي تَوسَّعَ في قِراءةِ تَاريخِهَا وَسِيرَتِهَا، و يَحُضُّ النَّاسَ عَلَى مَحْوِ الْأمِّيَّةِ وَتَعْليمِ أَبْنَائِهِم.
يَبرزُ اسمُ الشَّهيدِ كايد مِفلح الْعبيدَات كأَيْقونةِ النِّضالِ الْفِلسْطينِيِّ وَقَائدٍ أردُنِيٍّ، فكان لَهُ دَوْرٌ كَبِيرٌ فِي مُقَاومةِ الْمشْرُوعِ الصَّهيُونِيِّ، فَهُوَ مِنْ أَوائِلِ الَّذينَ أدْرَكُوا خُطورَةَ الْمشرُوعِ الصهْيونِيِّ على فِلسطِينِ ورَفضَ وعْدَ بَلفُور وَالاسْتِيطَانَ اليَهُودِيَّ فِي فِلسْطِين. شَهِيدُنا لَيسَ مجَرَّدَ قَائِدٍ فَحسْبُ، بلْ هو فَارسٌ منْ فُرسانِ الْعرُوبَةِ، شُجَاعٌ مُقْدَامٌ لا يَعْرِفُ الْخَوْفَ وَلَا الْوَهَنَ. وَقَفَ فِي وَجْهِ الْمُسْتَعْمِرِينَ وَالْغُزَاةِ، وَذَلِكَ فِي الِاجْتِمَاعِ الَّذِي أُقيمَ فِي عجْلُون عَامَ 1917 لِإِعْلانِ وَعْدِ بَلْفُورَ الَّذِي جَاءَ لِيَمْنَحَ وَطَنًا لِلْيهودِ على أرضِ فلسطِين، فَرفضَ شَهيدُنا بِكلِّ شَجاعةٍ وعَزمٍ وبِشَكْلٍ صَرِيحٍ وَلمْ يَتَردد للحظَةً وَاحِدَة فِي رَفْضِ اتِّفاقيةِ سايْكس بيكُو؛ فَوقفَ وُقُفة قَائِدٍ بِعزِيمةٍ كالْجِبَالِ. وَرَاء ذَلكَ الْقَائِدِ الشُّجَاع قَبَائلُ أُردُنِيةٌ وعربيَّةٌ تحْت رَايةٍ وَاحدَةٍ لِمُواجهةِ الْخطرِ الصهْيوني ِّ، كان يَرَى في فلسْطِينِ أَرْضًا مُقَدسَةً وَشَعْبًا شَقِيقًا وَقَضيَّةً عَرَبِيَّة تُحرِّكُ دَاخلهُ وَتَجعلهُ ثَابِتًا رَاسِخًا، مُدَافِعًا بِكُلِّ شَجاعةٍ وَإِبَاءٍ، دِرْعًا حَصِينًا يَحْمِي هذه الْأَرضَ الْمُقدَّسَةَ مِنْ أَوزَاغِ الْمُستَعْمِرِين.لمْ يَقْتصِرْ دَورُهُ فِي ذَلك فَحَسْبُ، فَسَاهَمَ بِتَقْوِيَةِ الْوعي الدَّاخليِّ لكل أردُنِيٍّ بِخطُورَة الْمَشْرُوعِ الصَّهْيُونِيِّ عَلَى الْأَشقَّاءِ فِي فلسطينِ، فَكَانَ ذَلِكَ إِلْهَامًا للْأجْيَالِ الْقَادِمَةِ وَتَحْفِيزًا على مُوَاصَلَةِ النِّضَالِ مِنْ أَجْلِ الْوَطَنِ وَالْعُرُوبَةِ.
إِن المَوْتَ حكْمَةٌ مِنْ حِكمِ اللهِ وآيةٌ مِنْ آيَاتِهِ الإِعْجَازِيَّةِ الَّتِي تُؤَكِّدُ نِهَايَةَ كُلِّ مَخْلُوقٍ، فَالْحَقُّ أَنْ نَمُوتَ مِنْ أَجْلِ اللهِ وَالْوَطَنِ، وَأَشْرَفُ أَشْكَالِ المَوْتِ أَنْ نمُوتَ عَلَى أَرْضِ فلسْطِين. هَذه كلمَاتُ شَهِيدِنَا الَّتي لمْ تزَلْ مثَالًا يُحتَذَى بهِ في التَّضْحيَةِ وَالْفدَاءِ. لَمْ يتَردَّدْ شَهيدُنَا فِي التَّضْحيَةِ بِنَفْسِهِ مِنْ أَجْلِ فِلَسْطِين، فَقَدَّمَ أَغْلَى مَا يَمْلِكُ دِفَاعًا عَنْ أَرْضِهِ وَشَعْبِهِ، فَبَدَأَ بِمُقَاوَمَتِهِ لِلْوُجُودِ الفِلَسْطِينِيِّ، فَشَاركَ فِي العَدِيدِ مِنَ المَعَارِكِ ضِدَّ العِصَابَاتِ اليَهُودِيَّةِ. وَفِي عَامِ 1920 قَامَ شَهِيدُنَا بِأَوَّلِ هُجُومٍ انْطِلَاقًا مِنَ الأُرْدُنِّ فِي مَنَطِقَةِ تَلِّ الثَّعَالِبِ، حَيثُ قَادَ مُقاوَمَةً شرِسَةً ضدَّ القُوَّاتِ الإِحْتلَالِ البِرِيطَانِيَّةِ فِي المَعْرَكَةِ الَّتِي عُرِفَتْ بِيَوْمِ سَمَخْ، وَارْتَقَى شَهِيدًا عَلَى أَرْضِ المَعْركَةِ، تَاركًا إِرْثًا مِنَ النِّضَالِ وَالتَّضْحِيَةِ. اسْتُشْهِدَ القَائِدُ كَايِدُ العبِيدات، مُثبِتًا لِلْعَالَمِ أَجمَعَ أَنَّ موْتَهُ تَجْسِيدٌ حَيٌّ لِكلِمَاتِهِ الَّتِي وَقَفَ بِهَا وَنَاضلَ مِنْ أَجْلِهَا.
سَطَّرْت فِي صَفَحَاتِ المَجْدِ اسْمَكَ، وَجَعَلْت مِنْ تَضْحِيَتِكَ القِصَّةَ الَّتِي لَا تُنْسَى، وَجَعَلْت’ مِنْ شَجَاعَتِكَ شُعْلَةً مُشْتَعِلَةً تَحْرِقُ الظُّلْمَ وَتَبْنِي العَهْدَ الجَدِيدَ.
رَحِمَ اللهُ الشَّهِيدَ عبيْدات وَكلَّ شُهَدَاءِ الأُمَّةِ، وَأَسْكَنهُمْ جَنَّاتِ الخُلُودِ.
(نَكبَرُ وما نَنْسَى كِبَارَنَا).
رتاج علي أمين الذنيبات .