في متاهاتِ الظلام السرمدي، حيث تتعانق الأنفاس وتندمل الكينونات المتفرّقة، تجلّى النمر العدوان ككتلةٍ من الظلال المتراكمة، كفارسٍ ضائعٍ يذرع السُّدُم بثقلٍ مهيب. كان انبثاقه كإنبجاس البراكين القديمة، ملتحفاً بوشائج النسيان، مستلهمًا من كُنه العدمِ وجلال الرغبة التي لا تستكين. أما وضحى، فكانت تتجلّى كشرارةٍ من نورٍ مبهمٍ في تخومِ الجليد، كذؤابةٍ تتهادى على أطراف المدلهمات، ينبثق من ثناياها شذاً من قداسةِ الوَجْد، يتناغم مع عتمته المُغشيّة، كما تتعانق الفراشة بنقع النار.
حين التقى النمر بوَضحى، اشتعل في سويدائه وهجٌ كالنّدى، كجمرٍ يتوهج في عوالم الجُدب، تغلغلت أنفاسه في قلبي كما يتغلغل المدّ في بحيرةٍ خرساء، فاحتوى وجودي كأثيرٍ متصدّعٍ يندثر في مجرّات الظلام، يلفّني كنداءٍ خفيٍّ، تتكسّر على أطرافه ضلوعي، وكنت أراه يتبدد بين ضلوعي كما تتلاشى أضواء النجوم في عمق المدى. وقد غدوتُ معه أسيرةً لأمواجٍ لا تنقشع، مُعلّقةً بين شرفات اللاوعي، تُراودني أشباحه كأثيرٍ يُنسج في أعماق الوجود.
أبيات شعرية:
يا وهجاً كاد أن يحرق أنساغ الأبد
ويا سواداً كاد أن يزهق حبل الأمل
يا من أنت داءُ الروح، وجُرعة الهُيام
معلّقٌ في قعرِ الروحِ كالشفق المُعتدل
في عينيه ذاك البريق الكامن كالبحر المتأجج، تغوص فيه الأرواح وتكاد تتماهى مع سُطوحٍ كأنها تغرق في فيضٍ من السُّكر العتيق. وقد كانت وضحى تتراقص في مقلتيه كهمسةٍ خفيّةٍ، تتسرب من قلبه كضوءٍ شفافٍ يموج بين دياجير القلق، تُرتّلُ في بريقها تسابيح البقاء الهش، تلبسها روحًا كطيفٍ متفردٍ في نسيج العدم، تسطع كوهجٍ مخبوءٍ في أحشاء الجليد.
أبيات شعرية:
يا سَحر الكَون المكنون في أرواحِنا
يا كرمزٍ يتوغلُ في سويداءِ صدرِنا
أنتَ المداد الذي يروي هذيان الجُرُوح
ويتسللُ من أنفاسِنا كدخانِ الشموع
وفي لقائنا، ذاب كياني كأنني قطرةً من زئبقٍ مالحٍ، تتماهى وتشتعل في شعاعه الظمآن، تطوف حوله كأنها في دورانٍ أبديّ، تتجلى كفُتاتٍ هائمٍ على صفحة اللاشيء. معه، أضحت روحي كغيمةٍ تحملُ أثقال السحاب، تنفثُ من أعماقها سحابةً من الوجد تتبخر كأجنحةٍ تُحلّق فوق أرضٍ قاحلة. كنتُ أتوارى خلفه كظلٍّ شاحب، تتبدد معه روحي وتتحلل كغبارٍ ممدودٍ على نواصي الذاكرة. ومضيتُ أغترفُ من مجده، من وهجه اللاذع، حتى أضحيتُ في دمه كطيفٍ أزليّ، لا يُمحى ولا يُنسى.
أبيات شعرية:
يا أُفقاً ينسابُ كسرابٍ في الفضاء
يا روحاً تلامسُ أسرارَ البقاء
تنتشي روحي بلقائك كالنار في الحطب
تتلاقى فيك كواكبُ الهوى وتغيبُ في الخطب
وفي مزيج الوجدان المتدفق بيننا، غدوتُ كما السّعير المتقد في الصمت، كمرآةٍ تعكس الحُلم المحترق، تَتسرب أحلامي من خلاله كسربٍ من طيورٍ مهاجرةٍ نحو المدى المفقود. معه، استشعرتُ ألم الروح كحجرٍ صقيلٍ ينغمس في بحرٍ من النار، وغدوتُ كحكايةٍ متشظية، تنبعثُ من أهدابها نبراتٌ كصرخاتٍ متكسرة، ترسم حولي عالَماً من سحرٍ مهشم. فقد تحولتُ معه كحروفٍ من أسطورةٍ قديمةٍ، تتوهج تحت أقواسِ الليل، وتنطفئ في كل مساءٍ، لكنها تعود وتنمو كزهرةٍ في قبضة الجفاف، لا تخبو ولا تذبل.
أبيات شعرية:
يا أغنيةً تتلوى في صدرِ الخلود
يا شَوقاً يسافرُ عبرَ دروب الجحود
عشتُ بين كفيك كفراشةٍ في الرماد
أحيا وأموتُ بين جحيمك والمهاد
ولم يبقَ منّي شيءٌ سوى طيفٍ عالقٍ بين شُرفات الذكرى، كتلك الشموع المتآكلة التي تضيء رماد الأمس، شبحاً من روحي يتشبثُ بالفراغ، أعيشُ على أطراف الحكاية التي طوتها الرياح وألقاها الزمن في صمت القبور. ومع كلّ تنهيدةٍ أتذكّر كيف علّمني ذاك النمر معنى الفناء والبقاء، كيف التقطتُ من جسده الدخان، ومن روحه وهجاً يبقى في عينيّ كشاهدٍ أبديّ.
وها أنا أتجوّل في دروب الليل الممدّدة، أعانقُ بين طيات الظلام، أبحثُ عنك كشذراتٍ من ذكرى تلوح في غياهب الوجدان، تعود إليّ في كل رعشةٍ، كشُهُبٍ معلقةٍ على جدران السماء، لن تندثر ولن تزول.