لجنة التحكيمالصفوف 6 - 9
لجنة التحكيم تقيّم المشاركات
164 أعمال
الأردن|الصفوف 6 - 9
امرأة من الباديةِ
جود طاهر الخزاعلة
تأليف جود طاهر الخزاعلة
امرأة من الباديةِ

امرأة من الباديةِ*

في بدايةِ النصفِ الثاني من القرنِ العشرين وُلِدتْ في الباديةِ الأردنية امرأة عظيمة،أشدهنَّ صلابةً وقوةً من بين نساءِ هذا العالم،عاشتْ طفولتها بالترحالِ والتنقل مع أُسرتها من مكانٍ إلى آخرٍ ،بين السابعة والعاشرة من عمرِها، تحملتْ مسؤوليةً كمسؤولية رجل في العقدِ الرابع من عمرهِ،برعايتِها للماشيةِ والجمال من الصباحِ الباكر حتى المساء.
ويقالُ: البنات في بيوتِ أُسرِهَنَّ ضيفات، وضيافتها لم تكنْ بالمدةِ الكافيةِ لها في بيتِ والِدها، فقد غادرتهُ في سنٍّ مبكرٍ، وتحملتْ مسؤوليات وواجبات.
كانتْ تمشي خطوةً تلوَ الأخرى إلى أن تصلَ إلى وادٍ تحيطُ به الهضاب والتلال؛ لتجمع الحطبَ قطعةً قطعة، وتلفُ حولهُ الحبل، وتحمله لأميالِ؛ لتصل بِهِ إلى بيتِ الشعر ، بعد ذلك تذهبُ لتحضر الماء من الآبارِ، وتحمله وتسير على قدميها مسافةً كمسافة حمل الحطب؛ لتصلُ بيتها منهكةً من التعبِ، ورغم هذا العناء كله تنجز جميع أعمال منزلها، وتصنعُ الطعامَ لِزوجِها و لوالديه وإخوته الصغار والكبار. إنها صانعةُ الرجال، من أعادت بناء العالم بيديها، تلك هي جدتي، حيثُ كانت تبلغُ عند زواجها الثالثة عشر من عمرِها، وفي الرابعة عشر من عمرها أنجبت طفلًا، وفي نهايةِ ذلك العام حملت بالطفل الآخر، فكانت طفلةً تحمل طفلًا بين يديها، وفي أحشائها تحمل بالطفل الآخر.
جدتي كانت وما زالت امرأة عظيمةً وجبارةً، ففي زماننا هذا الطفلة التي كانت في عمرها إذا انكسرت لها لعبةٌ بكت، وإذا حصلت على علامةٍ متدنيةٍ في الامتحانِ ارتعدت، ولربما كانت تخاف أن تنام والأضواء مطفئةٌ، وفي هذه المرحلة من العمرِ تكون الفتاة بحاجة لوالديها أكثر، أما في زمن جدتي كانت الفتاة تستمد قوتها من ذاتها، وتعمل على حاجاتها بذاتها أيضًا.
أنجبت جدتي عددًا من الأبناء وكانت أمي إحدى هؤلاء الأبناء، توفي زوجها الذي هو جدي _رحمه اللّٰه _ وهي في العقد الثالث من عمرها، فقدت جدتي خمسةَ أطفال من أبنائها، فقد كانت جبلا صامدًا جبارًا، فهي الأم الصبور التي صبرت على فقدان أبنائها،فقد اتخذت سيدنا يعقوب عليه السلام قدوةً لها في الصبر.
لن تهزم... امرأة تحملتْ مسؤولية حياة كاملة بكل ما خالطها من حزنٍ وفرح بسنٍ صغير جدًا، لن تهزم... امرأة وكلت نفسها وكل ما تملك لربٍ رحيم؛ فآمنت بالقدر، وتحلت بالصبر ، وتجلدت وصمدت، لن تهزم... امرأة عرفت مواطن قوتها، وهزمت ضعفها، ونفضت غبار الحزن وتجددت؛ لتصنع لنفسها ولأطفالها أجمل وأسعد اللحظات، امرأة عاشت بقلبين: قلب أب، وقلب أم حنون؛ لتعوض أطفالها ما فقدوا، لن تهزم... امرأة تتجدد كل يوم، وتعيش على أملٍ جديد...
تلك الأم ربت وتعبت حتى كبر أبناؤها وتعلموا بالمدارس والجامعات، هذه الأمُ التي لم تقرأ ولم تكتب حرفًا خرّجت أجيالًا منهم المعلمون والضباط والمديرون، أنتِ يا جدتي صانعة رجال؛ فقليل عليكِ أن يوضع على رأسك أكاليلٌ من الذهب.
بين ليلةٍ وضحاها افتقدت الجدة جمعة الأبناء واللقاء الدائم المستمر، وافتقدت ضحكاتهم وجمعاتهم وأصواتهم التي اعتادت على سماعها يوميا، بعد انتقال كل منهم إلى منزله الخاص، تصحو صباحًا؛ لتحضر قهوتها، فلم يعد في بيتها إلا رائحة القهوة وصوت أنفاسها، مرت الأيامُ مسرعةً لكن ساعة جدتي التي في منزلها كانت ترى عقاربها تمشي ببطء مرت سنوات....
عادت الأصوات والضحكات في بيتِها من جديد مع صراخ ومشاكسة الأطفال فلم يعد بيتُها يسوده الهدوء، وكان هذا أكثر ما يفرح جدتي ويشعرها بالسعادة، جدتي تحب الأبناء ورؤية الأحفاد حولها يوميا، فقد شهدت جدتي زواج بعض الأحفاد، وفرحت برؤيةِ أبناءِ أحفادها.
عندما أذهبُ إلى بيتِ جدتي أقترب من شجرِ الليمون والزيتون والدالية التي كانت دائما ما تحدثني عنها، فهي إحدى أهم الأشياء الجميلة في حياةِ جدتي.
وأنا الآن إحدى أحفادها والأقرب لقلبها ولفكرها، فكلما ذهبت إليها وجلست معها قصت لي كيف كانت حياتها وهي في عمري، وبأنها كانت تحمل طفلًا على يديِها وطفلًا آخر في أحشائها ، تنتظر مجيئه بلهفةٍ، شاء القدر أن تفقده في عمرِ السنتين تقريبًا ،وأرادَ اللّٰهُ عزّ وجل أن يكونَ طيرًا في الجنةِ شفيعًا لها.
كنتُ كثيرًا أسمعُ جدتي تحدث أبناءها وتوصيهم بزوجاتهم وأبناءهم، وأن البيوت تُعمر بالحبِ والمودة،وأن يسعوا للرزق فالرزاق هو اللّٰه، ونحن لسنا إلا سببًا يقضي بنا اللّٰه أرزاق خلقه، علِقَ ذلك الكلام في ذهني، وكأن الكلام الذي قالته نقشتُهُ على صخرةٍ.
والآن أصبحتْ جدتي في العقد السابع من عمرِها، وأكثر رفيق لها أقراص أدويتها، وما زالت قوية، فحتى المرض لم يستطع هزيمتها كما يعرفها الجميع...
تلك هي الأم العظيمة، والجدة الحنونة، أطالَ اللّٰهُ بعمرِها، وأمدها بالصحةِ والعافيةِ...