جلست منار بغرفتها تُفكر بما اوصلتها الظروفُ اليه، عمل صعب زهيدٌ وحياةٌ تَبعدُ كل البعد عن ما رسمته طفلةٌ عاشت بداخلها يومًا. مُلئَت تجاويف رأسها بعبارةٍ واحدةٍ لا غير:
- لا لوم علي فهذه ظروفي وهذا ما كتبه القدر لي!.
كانت تجلس ساما بجوارها وقد جذبتها عبارةُ منار: وهل تظنينَ حقًا أنَّ قدرك كامل كُتِبَ منذ ولادتك؟.
- اصمتِ قليلا فلا وقتَ لمُزاحكِ وانا حالتي يرثى لها هكذا!.
- اعطيني قليلًا من وقتك مادموزيل منار، هل تعرفين آيات عَمْر؟.
- ومَن هذه الان؟ ألها شأن بوضعي هذا؟ هاتِ ما عندك انا كلي آذان صاغية.
- آيات شخص احترمه بشدةٍ صِدقًا، شخصٌ استطاع أن يفوز بالمركز الرابع على مستوى العالم بمسابقة للبرمجة اقامتها شركة "مايكروسوفت"!. بدأت قصتها حينَ قررت المشاركة بمسابقةٍ خاصةٍ بالليجو، بدى الأمرُ وكأنما خُلِقَ لها، لكن حال بينها وبين رغبتها ثغرةٌ تُدعى بالنقود، سيبدو الأمر وكأنَ ظروفها تمنعها ولربما تظنين انها يئسَت حتى قبل أن تبدأ، لكن بالواقع قررت آيات أن تَنظُرَ للنصف الممتلئ من الكوب ووجهت جُلَّ انظارها نحو ما تملكه مِن امكانيات وقدرات لا العكس، أتعلمين يا منار ماذا يعني ذاكَ النوع من التفكير؟ يعني اننا نستطيع أن نُخرِجَ عظماءً من نازحين بمخيمات، يعني أنَّ لا مكان يَسِعُهُ الفشل، يعني أنَّ طريقتها بالتفكيرِ المميزة تلك تستطيع أن تُخرِجَ من رحم العجز نجاحًا باهرًا. قررت آيات انذاك ان تبدأ بتجميعِ النقود من مصروفها المدرسي الخاص، فكانت تلكَ هي خطوتها الاكبر نحوَ نجاحاتٍ لم تعرف لها البلدانُ حدودًا.
هنالك شيءٌ يميزُ آيات يا منار، هي قدرتها على تحويل كلمةِ لا لوقودٍ يدفعها بلا هوادة، هي قدرتها على استمدادِ قوتها من اللاشيء، وكأنها بقدرتها تلك تَكسِرُ قوانينًا كُتِبَت على يدٍ لم تعرف العزم قبلًا، بمعنى أصح لم تعرف آيات قبلًا.
من الشواهدِ على عزمها هو حينَ مشاركتها بالبرلمان المدرسي كانت دومًا ما تحاول جاهدةً أن تُعَدِلَ من النواقص في مدرستها، فَتعرض فكرتها لمعلماتها فَتتلقى الرفض، تحاول مرةً أخرى فَتتلقى الرفض، ثم مرة ثالثةً ورابعةً وخامسةً دونَ كللٍ او ملل، لا تأبه للرفضِ او "الخوفِ" الناتجِ عن الرفض، لأنها تعلمُ أنَّ الخوف مجردُ وهمٍ زائفٍ زائل ولن تسمح لهُ أن يأخذ مساحةً في قلبها قط، لهذا
بعد عدةِ سنوات قررت أن تخطو خطوتها الاكبر. "وكالة ناسا" كانت وجهتها، تبدو الفكرةُ مهيبةً الا انها لم تَخف، هذه آيات.
آنذاك ذهبت آيات لتعرض فكرتها المبتكرة المميزة، بدى الأمرُ مخيفًا لها وشعرت بأنها ستُطرَد على الفور وتلك المرة فقط وضعت للخوفِ كُرسيًا مهترئًا في قلبها، رغم حصولها على تمويلٍ ماليٍّ خاص ودخولها تحتَ التدقيقِ الأمني الا أنَّ طيف الخوف لم يُزحزح عن مكانهِ قط. وقتَ عرضِ النتيجة اذا ما كانت ستُرفَض ام لا، تقدمَ نحوها شخصٌ مِمَن يعمل هناك، دُبَّ الخوف بقلبها وعَجِزَ الست والعشرون حرفًا عن التعبير، "لقد قُبلتِ يا آيات، هنيئًا لكِ".
هل تعلمين يا منار لِمَ فازت؟ بالطبع نظرًا لموهبتها الفذة المميزة، ولكن السبب الحقيقي هو قوةٌ خجولةٌ تختبئ داخلها، هي قوةٌ لا تأبهُ للفشلِ او كلمةِ لا، لو أنَّ الفشل كان عائقًا بالنسبةِ لها لما سَمحت لفكرةِ "وكالة ناسا" أن تجولَ بخاطرها حتى، هذا ما ينقصُنا نحن المُتحسرونَ ليلًا ونهارًا وما أن تأتينا الفُرَص نفرُ منها وكأنما وحشٌ داميٌّ يختبئُ خلفَها، لا نكفُ عن التذمر حتى تأتينا فرصٌ على طبقٍ من ذهب كما خَيَلت لنا عقولنا، راجيةً ان يتغير بنا الحال بين عشيةٍ وضُحاها كهديةٍ مِن الاله دون أيِّ مجهودٍ منا، مهما استنجدنا وبكينا لن يتغيرَ بنا الحال يا منار، خوفنا صنعناه بأيدينا من عجينة الخوف ورشة من الكذب. المشكلةُ تتلخص فينا كَإناءِ مثقوبٍ مهما ملئته بنهاية المطاف لن يحمل شربة ماء.
آيات بطلةٌ بنظري لأنها تملك من الشجاعةِ ما لا يملكه اغلبنا، وتملكُ من القوة ما لا يستطيعُ احتماله معظمنا، ربما هي ليست بتلكَ القوةِ الضارية كما أصف، وسببُ رؤيتي لها بهذا الشكل ليس فقط بسبب نجاحاتها الباهرة او بسبب تصويرها لوطنها بتلك الصورة اللامعة ورفعة شأنه، وانما لأنها صورت الفشل وأرتني اياه بمنظورٍ مختلف، صورته بصورة تعكس النجاح، وكيف لفشلٍ أن يعكس النجاح؟!، لا أعلمُ الكيفية والوقت، لكني أعلمُ أنَّ هذهِ حقيقة لا محض خيال.
سكتت منار قليلًا مُسترسلةً نظراتها حولَ الغرفةِ محاولةً استيعابَ غرابةِ ما سمعته:
أتعنينَ أنَّ آيات لم تقف عاجزةً أمامَ ما يبدو وكأنَ القدر قد حاكه لها، وأنَّ قدرتها المميزة في صُنعِ المستحيلِ مِن العدم تجعلُ منها بطلةً؟.
- نعم يا منار، بما انكِ فهمتِ قصدي دعيني اخذ بيدكِ لعالم يملَؤُهُ النجاح، عالمٌ حيثُ كلمةُ "لا" تُعتَبر مجردُ كلمة!.
- اظن انكِ على حق، عمومًا تصبحين على خير انتِ وعالم نجاحاتكِ ذاك.