ينتابني الحنين وكذلك الشوق الذي إن ملّكته ما بين أضلعي حطمها. نعم. لقد قرّرت الكتابة اليوم ، لكن القلم حارَ من أين يبدأ ، وهو أيضا بحاجة إلى مداد لكن ليس أي مداد. فمداه تلك النبضات المليئة بلهفة عارمة جامحة. عبأته من نبضات قلبي ، من أين البداية تكون؟ حق لتلك البداية أن تكون من هناك وداخل تلك الجدران تحسبها للوهلة الاولى صامتة لا حراك ولا روح فيها. بدأت بتقليب بعض الاوراق التي جذبت انتباهي حتى ساقني ما فيها الي البحث عن المزيد. ذلك المزيد مما حوت تلك الدفاتر والقصاصات التي كان ما بداخلها يوثق موقفا او حادثة او حتى شعورا راوده آن ذاك، من هنا قررت ان اضبط عقارب ساعتي لكن هذه المرة ليست حسب التوقيت الحالي وانما سأعود بها الى الوراء بحسب تلك القصاصات لاقف عند سنة ١٩٨٤ استوقفتني تلك القصيدة التي كتبها لي والدي وقد ادهشني ذلك العنوان (بنيتي) وكان اجمل منه مطلعها حيث قال فيه : اهديك نظمي دونما رؤياك .. يا من عشقت قدومك ورؤاك.. يا من شغلت بها قبيل قدومها.. اعطيك من عمري ولم القاك... في هذه الاثناء حارت دموعي كيف تنساب وفي اي اتجاه فقلت له وكانني اجلس بجانبه : اعطيك عمري كله حتى اراك ، علمت ساعة اذ انه كان قد بدأ رحلة اشتياقه لي ولاخوتي منذ ان نظم تلك الكلمات فقد كانت رحلة طويلة تحتاج الى بحار شديد المراس لا توقفه رياح البحر العاتية ولا امواج الشوق المتلاطم . اتراك سمراء القدود مليحة؟ كيف لا وانا احمل كل صفاتك وملامحك ولون بشرتك. ومن جميل ما قرأت له : ذلك النظم الجميل وقد كان سنة ٢٠٠٢ : كانت خيالا في خيالي... ثم أمست لاعبة ... انت الاماني يا هبه يا طفلتي المهذبة لقد سرني كثيرا ما قاله في تلك الابيات حتى انني فرحت كثيرا وحزنت اكثر؛ كيف كان قطار الوقت يجرب مسرعا . وصل ذلك البحار الى جزيرته التي من فك يسعى للوصول اليها . في كثير من الاحيان وخاصة عندها تعلو اصواتنا ونبدأ بنشر الفوضى في ردهات المنزل وبعد ييأس اخماد تلك الفوضى ابحث عنه فأعرف انه قد تسلل تاركت خلفه ذلك الضجيج وتلك الفوضى ليجلس في باحة المنزل على كرسيه المخصص وامامه طاولة يعتليها فنجان قهوته. سرعان ما نتهافت اليه ونلتف حوله فيستقبلنا بابتسامة عذبة وكأنها تقول لنا اهلا بفلذات كبدي المشاكسين يجلسنا حوله ويبدأ بعدها بحوارنا فنبادله اطراف الحديث، يحدثك كلاما ممتعا شيقا وفي كل جلسة تجلسها معه يعطيك معلومة جديدة وفائدة علمية ان شإت فاللغة فلك ذلك وان شئت في الفقه او السير او التاريخ فلك ذلك . كان والدي رحمه الله كثير الصمت قليل الشكوى فعندما تضيق به الدنيا ولا يسعه فضاؤها يتوجه الى الله بالشكوى فهو على اتم العلم بأن الشكوى لغيره ذلة واهانة، ومن مناجاته الالهية قوله : يارب بي شكوى تجول بخاطري.. وعليك لا تخفى وان اخفيتها .. يا عالما بخواطري ومشاعري ... يا راحما نفسا تئن لذاتها ... يا عالما برغائب النفس التي ما بثت الشكوى ولا رغباتها. حديثه عذب كأنه شهد لا تمله الأذن بل تانسه ، دائما يوصينا بتقوى الله حتى انني وجدت من الوصايا في مذكراته ما وجدت ومن وصاياه لنا ما اوصى به اخي حمزة قوله : فبداية اوصيك بالدين .. حفظ الصلاة وزد بأنفال .. واحرص على اركانه واعمل .. عمل الكهول بعزم ابطال... تمهل يا قطار العمر ما اعلجلك! أأتبعك المسير حتى كأنك في لهفة تحث الخطى للموقف الأخير ... رباه ما أعجلك ! ما كان ليكتب قصيدته محض صدفة فقد كانت تحمل عنوانا جميلا (صبا) لكنني وجدتها محض الصدفة بينما تحدثني شقيقتي صبا ونقلب دفاتر والدي نلثم رائحته فيها نستمد قوة وعزيمة من ذلك الصبر الذي احتواه والدي ومن ايمانه الراسخ بربوبية التوحيد.. حدقت هنيهة ودهشت أخرى .. بصوت مرتجف.. صبا فإذا بها تقول لي متعجبة ماذا هناك ؟ قلت لها صبا عنوان قصيدة نظمها والدي فبدأت اقرأها على مسامع شقيقتي وعيناها تذرفان الدمع وكأن لسان حالها يقول والدي يتغنى بي! صبا العصفورة النظرة.. بكل البيت منتشرة .. تلاحقني بكل الدار .. شاكية محتشرة.. تسائلني عن الأشياء... أو تخبر عن الحشرة .. صبا ك صبا الربيع بها .. أشم روائحا عطرة .. كانت دموعها الساخنة تنبئ عما يتزاحم في نفسها وعقلها ووجدانها من مشاعر جياشة نحو ذلك الرجل الذي غافلها الرحيل ولم يمهلها قليلا حتى يشاطرها فرحة نجاحها في الثانوية العامة. لم يعد للفرح طعم، ولا للابتسامة رونق ، ولا للحمال بهاء ، لا تكتب كلماتك الأخيرة ولا قصيدتك الاخيرة وضع قلمك جانبا لأن الحياة بعدك غدت مريرة. أبياتا ثلاثة كتبها والدي يحض فيها على الصلاة فقال: قوموا الى صلاتكم فأطفئوا .. نارا تلظى في متون الساهرة.. لا حول للانسان بعد موته ..في سجدة يسجدها في الاخرة .. يبقى حبيس ذنبه في قبره ان لم يتب قبل دخول المقبرة كان هذا نظمه الأخير وقبل رحيله بشهرين وكأنه ادرك ان رحلة العمر وصلت موقفها الأخير فتأهب يعد عدته للرحيل ويجمع امتعته ويلملم اغراضه الاخروية لأن الزاد اختلف والمتاع اختلف لقد استقل رحلته الطويلة بلا عودة منتظرا منا دعاء .. او من القرآن ترتيلة