
مسابقة أبطال الأردن ٢٠٢٤
أحلامي لا تعرف حدود
_____________________
بقلم تغريد محمد
تشرين أول ٢٠٢٤
أغلقت ريم سماعة الهاتف وهي تتمتم بكلمات يبدو أنها تدعو لزوجها سند بعد أن أوصته بعدم السرعة وكذلك الحذر أثناء القيادة. "في رعاية الله.. الله يكون معك".
سند شاب أردني من ذوي التحديات الحركية، يبلغ من العمر ثمانية وثلاثين عاما ويعمل كأستاذ في إحدى الجامعات. تحدى بطلنا الكثير من الصعوبات حتى وصل إلى ما وصل إليه.
يمثل سند كل فرد من ذوي التحديات الحركية الذين يعيشون في زوايا منسية كمجتمعنا هذا. سند ومثله آخرون يواجهون جملة من التحديات التي لم تكن في يوم من الأيام عائقاً يحول دون تقدمهم والوصول إلى مبتغاهم وتحقيق طموحاتهم.
(١)
تعيل فاطمة ولدها الوحيد سند الذي رافقته الإعاقة منذ ولادته حيث أخبرها الطبيب أنه قد لا يستطيع المشي على قدميه. كان وقع هذا الخبر كالصاعقة على فاطمة التي توفي زوجها بعد أشهر قليلة من حملها بسند ورضيت بقدر الله وقضائه مؤمنة تماما بأن في ذلك خيراً لهما.
ترعرع سند في أحضان والدته وكانت له الأم الحنون والمعلمة والممرضة لا تدع باباً للأمل إلا طرقته باحثةً عن علاج لابنها وتمكنت أخيراً من تحصيل كرسي متحرك يعينها في تحقيق متطلبات رعايته حيث الذهاب إلى الطبيب المختص ومراكز العلاج الطبيعي. وضع فاطمة الصحي لا يمكِّنها من حمله والتنقل به كما يشكل عبئا كبيراً على عاتقها.
(٢)
ما أن بلغ سند السادسة من عمره حتى راود فاطمة الأمل بأن يلتحق ابنها بالمدرسة الأساسية كباقي أقرانه ولم تدع أمه مدرسة في الحي إلا زارتها محاولة تحصيل حقه بالتعليم الأساسي، إلا أن جميع محاولاتها باءت بالفشل وقوبلت بالرفض مبررين ذلك بصعوبة التنقل في المدرسة إضافة إلى عدم تمكنهم من تحمل أي مسؤولية، حيث يحتاج إلى رعاية خاصة لا تقع ضمن دائرة مسؤولياتهم. المدارس هنا غير مؤهلة لتتوافق مع احتياجات ذوي التحديات الحركية، إذ تجد الأهل في صراع بين رغبتهم بالتحاق أبنائهم بالمدرسة وبين عدم قبولهم فيها، حيث تفتقر المدارس إلى أقل الإمكانيات والتسهيلات لهذه الفئة من الأطفال.
حينما بلغ المخاض أوجه وبعد محاولات مضنية للحصول على موافقة أحد مدراء المدارس، تمكنت أخيراً من توفير الكتب المدرسية للصف الأول وخصصت لسند وقتاً تعلمه فيه القراءة والكتابة لعله يُقبل يوماً في إحدى المدارس، فإن تحقق ذلك ستكون قد بنت عند ابنها اللبنات الأساسية في القراءة والكتابة.
قلما شعر سند بالنقص رغم إدراكه للاختلاف بينه وبين أقرانه الذين يراهم يلعبون ويركضون في الحي بينما هو جالس لا يقوى على التحرك وكانت أمه بفضل جهودها قد زرعت فيه الثقة بالنفس والقناعة بما لديه من قدرات، مدركة تماما أهمية أن يكبر ابنها مقتنعاً بما لديه وهذا ما كان بالفعل. رغم ذلك كان سند يتسائل دوماً بحزن لماذا هو ولماذا لا يقوى على اللعب! تجيبه فاطمة ببعض الكلمات مواسية قائلة: هذا المكتوب علينا ولازم نرضى. كان ابن عمه نضال الذي يكبره بأعوام خمسة يزوره بين الفَينة والأخرى.. يقضيا الوقت سوياً بين الجد واللعب.
(٣)
قُبيل بداية العام الدراسي تجددت محاولات فاطمة بالبحث عن أمل جديد علها تجد من يتقبل إعاقة ابنها ويُؤمن بحقه في التعليم فليس من العدل أن يحرم من هذا الحق! وتحقق أمل فاطمة ففي أحد الأيام ومن قَبيل الصدفة سألها أحد الأطباء إن كان سند يتابع تعليمه فهزت رأسها نافية ذلك بصمت يشوبه الحزن والأسى.
حاولت فاطمة المحاولة تلو الأخرى وبفضل أحد فاعلي الخير التحق سندٌ بإحدى المدارس الخاصة وأدرك أقرانه في الصف الأول حيث بدت عليه في سنٍّ مبكرة ملامح الفطنة والذكاء المكنونة في عينيه الخضراوين ووجهه الباسم.
كان سند طالباً مجتهداً و أثبت جدارته على مدى سنين طوال وكان من المتفوقين في مدرسته حيث كانت أمه تحتل مكانتها على الكفة الأخرى للميزان وقد بذلت فاطمة من الجهد ما بذلت وبلغت من التعب ما بلغت، بين مجاهيدها اليومية تجاه ابنها وبين نظرات المجتمع التي تحط من قيمة الفرد العاجز بنظرهم.
ينظر المجتمع إلى هذه الفئة نظرة دونية فالإنسان الصالح للعيش في نظرهم هو من يقوى على إدارة شؤونه بنفسه ويستطيع تحمل مسؤولياته.
كانت فاطمة تصطحب سنداً كل يوم إلى المدرسة وتعود به إلى المنزل حيث تقوم برعايته والاهتمام بشؤونه الدراسية إلى أن بلغ أشده وأصبح قادراً على الاهتمام بنفسه والقيام على شؤونه الخاصة. سند الآن يستطيع تأدية واجباته، قادراً على التحرك بكرسيه وإدارة بعض جوانب حياته. كان يقضي معظم وقته على ذلك الكرسي كيلا يثقل الحمل على أمه كما كان يقضي أيضاً معظم وقته بين الكتب في المطالعة والقراءة اللذين عززا لديه الثقة بالنفس وخلقا منه إنساناً مثقفاً.
تنظر فاطمة لسند بعين طفولتها البائسة حيث كانت تعيش بكنف والديها المسنَّين وتقوم برعايتهما واضطرت فاطمة آنذاك لترك المدرسة والاهتمام بشؤونهما وشؤون المنزل رغم تميزها الدراسي الواضح.
"سأسميك سند يا ولدي لعلك تكون سنداً لي"....
تزوجت فاطمة كذلك مجبرة وكان زوجها أباً وأخاً لها واسترسلت فاطمة في تفكيرها تتذكر حياتها مع زوجها وكيف حمل أعباء الحياة معها معانقة الماضي والدموع تترقرق على وجنتيها.
وما فتئت فاطمة أن تستفيق من ذكرياتها حتى دق جرس الهاتف: أم سند ..أصيب ابنك ببعض الجروح إذ سقط عن كرسيه لكنه بخير .. لا تقلقي. سارت فاطمة بسرعة الريح والقلق يتملكها حتى وصلت المدرسة. ولدي هل أنت بخير؟؟ أجاب سند بابتسامة وهز رأسه إيجابا بين ضجيج رفقائه "شو صار معه"؟ "كيف وقع يا حرام" وضحكات البعض الآخر وسخريتهم منه!!
لم تتعدَّ إصابة سند الرضوض البسيطة ولكنَّ الأثر النفسي للحادثة كان أكبر وقعا وأكثر إيلاماً فكثيراً ما كان يتعرض سنداً للتنمر في المدرسة وانقسم الطلبة هناك إلى صفين اثنين أحدهما متنمراً والآخر مشفقاً لا يستطيع إخفاء تعاطفه. لم يكن سند يفصح عن اكتراثه بهذا كي لا يري ضعفه ويتعرض لتنمر أكبر من الطلاب. أما المعلمون فقد كان أحدهم يكنُّ لسند محبة واحتراماً كبيرين وطالما ساعده في التنقل في مرافق المدرسة، كما قدم له الدعم النفسي قدر استطاعته.
"استمرّ يا ولدي استمرّ حفظك الله لوالدتك ونولك مرادك! الله يرضى عليك.
زاده ذلك الدعم صلابة وعزيمة من بعد ضعف، حتى تخرجه من الثانوية العامة.
(٤)
خلف مكتبه البني الرث كان يضع سند كتبه ومستلزماته المدرسية، هناك كان يجلس ساعات وساعات بين الدراسة والمطالعة.
صحيفة ورقية وقلم حبر جاف كانا على زاوية من زوايا مكتبه، أخذ سند القلم وبدأ يحل بعض الألغاز في آخر الصحيفة عندما جاءت أمه إليه وأخذا يتبادلان أطراف الحديث.
لم تكن إعاقة سند تحط من طموحاته قدر ما حط منها المجتمع فقد كان من الصعب بل من المستحيل مشاركته الأطفال سواء باللعب أو بالنشاطات المدرسية التي لا محل له فيها. بعد يومين سينتهي التسجيل للرحلة المدرسية التي حاول سند جاهدا إقناع معلمة بالمشاركة فيها دون جدوى فلا حافلات مجهزة بمكان خاص لذوي التحديات الحركية ولا مرافق خاص له هناك.
حاولت أمه مواساته وهي تواسي نفسها في الحقيقة: "بكرا بتتخرج من المدرسة يمة وبحلها الحلال".
"ما إلي أي حق يمة بس بكفي بكفي أني بكمل تعليمي"... أجاب سند بحزن.
بينما كانت ريم تسرح شعرها الأسود المسترسل على كتفيها نادت أمها من بعيد:
"ريم الحافلة بانتظارك تأخرت عن المدرسة". كانت ريم طالبة مجتهدة تعلم تماماً ما تسعى لأجله. طمحت ريم الاخت الوسطى لأخوين اثنين بدراسة القانون كأخيها الأكبر.
(٥)
حاول سندٌ جاهداً إخفاء توتره الشديد يوم إعلان نتائج الثانوية العامه وكانت فاطمة كذلك. في ذلك اليوم تواجد بعض المقربين من فاطمة وابنها بجوارهما لمشاركتهما الفرحة.
ملامح القلق بدت جلية على وجه فاطمة ودموعها تنهمر على وجنتيها تارة وتعلو الابتسامة شفتيها تارة أخرى. وجاء البشير: سند خمسة وتسعون المركز الأول في المدرسة. ملامح الدهشة والاستغراب كانت واضحة على وجه الجميع فهذا نجاح باهر لم يدركه أحدٌ من ذي قبل ولم يكن هذا النجاح متوقعاً نظراً للوضع الصحي الذي نشأ عليه سند، وانهالت حينها المباركات وأقبل المهنئون من الأقارب والجيران.
كان هذا يوماً مميزاً لم تسع الفرحة سنداً وأمه حيث لم يناما في تلك الليلة فكلما غفا جفنه استيقظ على صوت امه.. " الحمدلله الحمدلله" حصدنا ما زرعنا ونلنا ما تمنينا.
بدأ سند التفكير جاداً في التخصص الجامعي الذي يود دراسته وفي أي جامعة سيلتحق إن تم غضُّ البصر عن إعاقته أصلاً. راودت سند الكثير الكثير من التساؤلات وبات يفكر في طموحه حيناً وفي رغبة أمه أحياناً أخرى، لم يستطع سند أن يتجاوز صعوبة هذا الأمر حيث لا وسائل نقل مهيئة لذوي التحديات الحركية ولا مجتمع متفهم لطبيعتهم.
قاطعت فاطمة تفكيره بدخولها إلى غرفته ورائحة الشاي بالنعناع تملأ المكان.
"يالله يمة متى بدك تسجل للجامعة.. طبعاً طب لا تحكيلي تخصص ثاني".
ساد الصمت المكان للحظات قليلة وفاطمة كلها أمل بأن يلبي سند رغبتها بدراسة الطب.
"يمة أنا رغبتي أدرس قانون.. معدلي بأهلني أدرس هذا التخصص وأبدع فيه".
وافقته أمه رغم شعورها بالإحباط فهذا حلمها منذ طفولة فلذة كبدها.
راودت الأفكار سنداً مرة أخرى وبات يفكر عله يجد حلاً فالتنقل أمر صعب جداً بل شبه مستحيل في ظل انعدام الخدمات لذوي التحديات الحركية فتلك شوارع وعرة من جهة ومعظم سائقي الحافلات يرفضون قلهم على متنها من جهة أخرى.
حدث سند نفسه بأن التنمر ونظرات الشفقة أمر لا مفر منه ولكن يمكن التعايش معه.. التحدي الحقيقي كيف سيتنقل من وإلى الجامعة وعلى مدى سنوات. لم يوفر سند جهداً باحثاً عن وسيلة تساعده في تخطي هذه المشكلة وانتهى به المطاف بأن يتقدم بطلب الالتحاق بالجامعة وعندئذٍ سيحلّها ألف حلال.
تلقى سند القبول الإيجابي للالتحاق بإحدى الجامعات العريقة وحصل على منحة كاملة لتفوقه في الثانوية والمشكلة ذاتها لا تغادر ذهنه. كان هذا القبول دافعاً كبيراً لإكمال مسيرته حيث عرض عليه ابن عمه اصطحابه للجامعة والعودة معه إلى البيت.
أزاح نضال بمعروفه هذا حملاً كبيراً عن كاهل سند ورغم المسؤولية الكبيرة التي وقعت على عاتقه من اصطحاب سند إلى موقف الحافلات ورفعه للصعود إلى الحافلة وإنزاله منها كذلك، كما ساعات الانتظار الطويلة في الجامعة إلا أنه كان سعيداً جداً بهذا.
كان يتخذ سندٌ من تلك التحديات طريقاً نحو إنجازاته..وكلما تبادرت إلى ذهنه ضحكات أطفال الحي ونساءه سخرية منه ازداد إصراراً على تحقيق أهدافه المرجوة.
(٦)
في صبيحة أول يوم في الجامعة رافقت فاطمة ابنها إلى الباب موصية نضال بالحذر.. "طول بالك وامشي على مهلك". توجه سند برفقة نضال إلى موقف الحافلات حيث طال انتظاره هناك إلى أن وافق أحد سائقي الحافلات أن يصعد بعد طول رجاء. تحديات كثيرة كانت تواجهه في طريقه للجامعة والأمر ذاته يتكرر يوميا حتى انتهى به المطاف للإتفاق مع أحد السائقين بنقله يومياً مقابل أجر غير زهيد مقارنة بالركاب عامة.
لم يستمر الحال على ما هو عليه فقد تجددت همة سند بطرق أبواب جديدة للأمل. ودَّ سند لو يستطيع الحصول على أطراف اصطناعية رغم تكلفتها العالية فالتأمين الصحي لا يشملها.
وأخيرا وبعد طول انتظار استطاع سند الحصول على إعفاء طبي واستبدال أطرافه بأطراف اصطناعية كانت أطرافه البالية تلك عزيزة جداً عليه رغم عجزه. بدا على وجه سند تغيراً واضحاً في ملامحه ونظراته كما بدت عليه ملامح القوة والاعتماد على ذاته في تنقله ودراسته واستطاع أخيرا المطالبة بحقوقه التي فقد.
في أحد المساقات التي تتناول موضوع حقوق الإنسان هب سند متسائلا إن كان بإمكانه فعلا الحصول على حقوقه، مشاركته الاجتماعية، حقه في الصحة، حقه في التنقل وتكوين أسرة. لم يكن على علم بعد أن ذلك كله مجرد نظريات فقط.
الوضع الاقتصادي هناك لا يسمح بإنشاء مرافقَ خاصةٍ لذوي التحديات الحركية ويحول أيضاً بينهم وبين تحصيل أدنى حق من حقوقهم كما النظرة المجتمعية والتهميش الواضح لهم.
ساد المكان الصمت... فمن النادر أن يحصل فرد من ذوي التحديات الحركية على مقعد في الجامعة ومن النادر أيضا أن يتحدث أحدهم بهذا الموضوع وهذه الطريقة. استرقت ريم النظر إلى سند معجبة بقوة شخصيته وجراءته، لم يفوت سند أي محاضرة في هذا المساق وكانت ريم كذلك.
(٧)
كانت فاطمة تعدُّ طعام الغداء حينما دخل سند البيت، ملامح الفرحة كانت جلية على وجهه والبسمة تعلو شفتيه.
-" بدل ملابسك يمة وتعال احكيلي شو صاير معك".
في مطلع السنة الدراسية الثانية حاول سند جاهداً مع مجموعة من زملائه وضع مخطط الترشح لمجلس الطلبة. كان وزملاؤه على درجة عالية من الثقافة والوعي حيث تصب قراراتهم في مصالح جمة دون تمييز بين فئة وأخرى.
حصل سند على أصوات أهلته لرئاسة مجلس الطلبة بينما ترأست ريم اللجنة الاجتماعية، لقاءات كثيرة كانت تجمع بينهما. احمرَّت وجنتي ريم عندما بادر سند بالسؤال حول مخططاتها وسرعان ما تلاشى خجلها مجيبة بكل ثقة أن أولى اهتماماتها هو ضمان حقوق الأفراد من خلال التوعية وتطوير الفكر الجمعي كما إزالة الحدود بين الفئات المختلفة في الجامعة.
طور مجلس الطلبة بجوانبه المختلفة تغيراً ملحوظاً في الجامعة على مدى سنتين، لم يستطع سند خلالهما إخفاء إعجابه بريم.
كثيراً ما كان سند يقارن بين ماضيه وحاضره سعيداً بحصاد ثمار صبره وتعبه، إلا أن شعوراً بالنقص والاختلاف كان يحاصره دوماً.. ربما كان هذا منبع الأمل لديه فمن رحم الألم يولد الأمل.
استرقت ريم النظر إليه بينما كان سند متوجهاً إلى المحاضرة، تبعته ريمُ على مهل خشية أن يلحظ وجودها. هناك في قاعة المحاضرات التقت نظراتهما حين تعمدت الدخول بعده بدقائق، كان سند ينتظر حضورها دائماً وهي كذلك لكنها لا تبدي له اهتماماً كبيراً.
يتسائل سند دوماً إن كان يستحق فعلاً هذا التقبل والاهتمام من قبل زملائه... بالمقابل كانت تُكِّن له ريم الكثير من التقدير لجده واجتهاده وكأنها وزملاؤها هم المختلفون عنه بتفوّقه هذا.
كان سند أيضاً محطَّ اهتمام لأساتذته جميعهم دون استثناء فقد كان مثابراً فضولياً لا يدع أي تساؤل دون إجابة.
سند رغم عزيمته الصلبة وطبعه الغامض كان هشاً رقيقاً من الداخل، لطالما رمقت عيناه تحركات ريم في الجامعة علها تستجيب لنظراته حيث كان سند دائم الخوف من التحدث مع ريم خشية أن تصده فيضحي محرجاً ذليلاً برأيه.
بالقرب من المدفأة جلس سند محدثاً أمه عن ريمَ ورقتها .. عن خوفه من التقرب منها.. عن إعجابه بها..
" عندي شعور تجاهها يمة بس خايف امضي على أي خطوة وأندم"
" ما عرفتك هيك... طول عمرك سند القوي.. لازم تكون فخور بنفسك وواثق من خطواتك".
(٨)
كان الجو ماطراً عندما وصل سند إلى قاعة المحاضرات كان يلهث وكأن أحدهم يلاحقه.. تلفت يمنة ويسرة .. لم تكن ريم هناك في ذلك اليوم.. تململ سند طويلا خلال هذه الساعة التي مضت بثقل وكأنها ألف عام.
خرج سند عائداً أدراجه فإذا بها تقف تحت المطر حاملة مظلتها.. فتوجه سند نحوها مندفعاً وكأنها فرصته الأخيرة طالباً منها قبول دعوته لاحتساء القهوة سوية. لم تخذله ريم كما توقع ولم يجد الحواجز التي خشي. أخذهما الحديث حول الجامعة والدراسة والعائلة .. حدثها سند عن أمه الداعم الأول له. وحدثته عن اهتماماتها بحقوق الإنسان خاصة فيما يتعلق بذوي الاحتياجات الخاصة وحقوقهم.
لطالما حدث سند ريم عن فاطمة أمه.. حتى فاضت شوقاً للقائها.. لم يطل الانتظار طويلاً فقد اصطحبها سند معه ذات يوم إلى منزله المتواضع الذي يقع في أحد الأحياء القديمة.
طرق سند الباب..
- " يمة معي ضيوف"
" اهلا وسهلا يمة فيك وبضيوفك"
رحبت فاطمة بريم واستقبلتها استقبالاً حاراً...
أخذهم الحديث لساعات طِوال تلاشت بعدها الفجوة التي كانت تفصل بين ريم وسند.
في الجامعة لاحظ الجميع العلاقة التي جمعت ريم بسند رغم لقاءاتهما القليلة. ربما لغة العيون تلك التي تغني عن كل الكلام.
(٩)
توسم سند يوم تخرجه بالتفوق والنجاح محققاً طموحاته بجدارة وسط تصفيق الجميع له حيث تم تكريمه من قبل الجامعة بمنحة لإكمال دراساته العليا بينما كانت دموع أمه تنهمر بغزارة حين ألبسها تاج نجاحه.
لم يكتف سند بتخرجه من الجامعة بل تعدى ذلك ليبدأ رحلته نحو تميز أكبر وأبدع سند بتحركاته ونشاطاته حتى أصبح قدوة لكل عاجزاً بائس. عبد سند بجهوده تلك طريقاً للتميز في الحياة العملية فقد اقتحم سوق العمل بكل إصرار كما عهدناه، باحثاً عن فرص تطور من قدراته وتقوي عزيمته إلى جانب دراساته العليا.
لم يكن الأمر هيناً فمن الصعب أن يجد الأفراد ذوي الإعاقة عملاً يساوي تعبهم ومجهودهم، فمعظم أصحاب العمل يطمعون إلى الإنتاج المرتفع مقابل أجور بسيطة.
تميز سند أخيراً بإخلاصه في عمله الذي أنشأه ورفيقة دربه ريم التي شاركته الحياة بحُلوها ومرها بعد طول انتظار.
هكذا قضيت طفولتي وتحديت مجتمعي يا ريم.. لم يكن الأمر سهلاً على الإطلاق.. كان طريقي مليئاً بالعثرات والصعاب.. الآن فهمت كلمات أمي رحمها الله عندما قالت "انت اشتغل على حالك وبتهون ان شاء الله".
تفرغت ريم لرعاية صغيرهما..
أكمل سند مشواره في برنامج الدكتوراة إلى جانب عمله كأستاذ معيد في الجامعة ذاتها..
أفراد كثُر كأمثال بطلنا يعيشون في غياهب المجتمع.. تجدهم معزولين منذ نعومة أظفارهم قابعين في ظلمات البيوت مقيدين بسلاسلَ وهمية، بينما اجتاز بطلنا الكثير من التحديات وأزال عن طريقه الأشواك والعثرات بدءاً من مرضه إلى تحديات المجتمع وقيوده حتى وصل إلى طموحه وما زال مستمراً في مشواره مع استمرار هذه الحياة.