هي حياةٌ واحدةٌ نعيشها بِحلوها ومرها، بين سعادةٍ وألم ، بين حلمٍ وواقع، بين نجاحٍ وفشل. ستمضي الحياة ويمضي عُمر الإنسان إلى نهايته، ثم نراجع أنفسنا، ما الذي حققناه؟ وما الذي عجزنا عن تحقيقه؟ هل نحن في المكان الذي أردناه؟
ها أنا اليوم أراجع نفسي وحياتي، ربما بذلك أجد أجوبةً مناسبةً لما يراود أفكاري من أسئلةٍ في لحظاتِ السكون. لماذا أنا هنا؟ كيف انحدرت إلى هذا الحال؟ هل سأكمل السير في هذا الطريق أم أنني سأواجه رياحاً تدفعني لاتباع طرقٍ فرعية؟
قبل اثنا عشر عاماً، حيث أبلغُ من العمر سبعةَ أعوام. قد يسأل الكثير كيف؟ ولماذا؟ ما الذي قد تعانيهِ طفلةٌ في السابعة من عمرها؟
ذات يومٍ كنا هناك في ذلك العالم النقي، حيث كانت الأحلام لعبتنا، والخيال إلى أجمل الأماكن يأخذنا، كنا نمتلك الكون بأعيننا، والحب والفرح لا يغادرنا، ليمضي فينا العمر وكبرنا، وسرنا في طريقٍ يدعى مستقبلنا، لندرك بعدها بأن الطفولة هي أطهرُ ما عشنا، وأن المبادئ التي عليها نشأنا، ما كانت سوى خيالٍ جميلٍ يلامس واقعنا. من هنا تبدأ حكايتي أنا. آه نسيت أنّي لم أقدم نفسي بعد، أنا إسراء، طالبةٌ جامعية، بلغتُ عامي التاسع عشر قبل فترةٍ وجيزة، سوريةُ الجنسية، أدرس في إحدى الجامعاتِ الأردنية " جامعة جدارا " تخصصي هو اللغةُ الإنجليزية " الترجمة "، أقيم في الأردن منذ عام ٢٠١٣م، أي عندما بدأنا نرى الأشياء والأشخاص على حقيقتهم دون تزييفٍ أو خداع، عندما بدأت الحياة تكشف ستائرها لنرى خلفها عالماً مختلفاً تماماً، عالمٌ بلونٍ قاتم وكأنّ الحياة فقدت بريقها. لا أدري ما الذي حدث بالضبط، ولكن كل شيءٍ من حولي تغير. وكأنّ العالم الذي اعرفه اختفى، ليحل محله عالمٌ من الرماد، عالم بلا ألوان، وبلا نبض. ولكن الآن، لا مفر، فقد أصبحنا أسرى في هذا العالم القاتم الذي لا يسمح للإنسان حتى بذرف دموعه بسبب حزنه، عالمٌ فرض علينا التخلي على الرغم من صعوبته، التخلي عن أشخاص وأماكن كانوا ملجئاً وأماناً في وقتٍ ما. عالمٌ سرق منا طفولتنا وأجبرنا على النضوج قبل أواننا، أجبرنا على عيش ما لا نريد وقدم لنا ما لا نستحق. كل هذه القسوة تختبئ في طيات مصطلحٍ واحدٍ لا غير،
مصطلح كفيل بتدميرِ شعوبٍ كبيرة إنها "الحرب". تلك الحرب التي قلبت حياتنا رأساً على عقب، الحرب التي حولت حياتنا إلى جحيم. لقد كانت غايتنا منذ أن كنا أطفالاً البحث عن السعادة ولو بمجرد الحصول على هديةٍ صغيرة. أما بعد اندلاع الحرب أصبحنا نُحبذ النجاةَ فقط. النجاة من القصف والتهجير تحت صمتٍ عربيٍ بالغ القسوة. كنا نموت ببطءٍ شديد تحت القصف والغارات التي لم تهدأ ولو لخمسِ ثوانٍ ؛فحتى المستشفيات عَجِزت عن إنقاذ أرواحٍ كثيرة.
واقعٌ رثٌ وفظيعٌ جداً، قصفٌ وتهجيرٌ وغاراتٌ لا تهدأ فوق رؤوسنا، أمطارٌ من نارٍ، وأنهارٌ من الدماء، جوعٌ وعطشٌ ينهش أرواحنا الصغيرة. ها أنا أحمل مأساتي بين يديَّ الباردة، وثيابي المُمزّقة وفي قلبي الصغير ذكرياتٌ كثيرة، أَهجر وطناً يحمل ذكرياتي وأيامي التي تلخصت في سبعِ سنواتٍ من قدومي. بدأت أودع أيام رمضان وجمال العيد في وطني، أودع مدرستي وحارتي، ودعت بائع الحلوى الذي كان يمر من أمام منزلنا، لا زلت أذكر كيف كنت أنتظرهُ يومياً أمام المنزل من الصباحِ الباكر؛ لشراء الحلوى منه. وأخيراً ها أنا أُلقي تحيةَ الوداع على "الشّام" رائحةُ الياسمين الزكية، ومناظرها الخلابة، وجبالها الشاهقة، وساحاتها الواسعة.
الكثير من الأسئلة تحتل تفكيري في تلك اللحظات أهذا عناقي الأخير مع وطني أم أنَّ للقصةِ بقية؟ هل هناك نورٌ في نهاية هذا النفق المظلم؟ هل من الممكن أن تستعيد روحي وهجها مرةً أخرى؟ أم أنّني سأظل عالقة في هذا البؤس مدى الحياة؟
أهاجر إلى وطنٍ لا ناقةَ لي فيه ولا جمل. كانت مشاعرُ الخوف والوحدة تأكلني من الداخل. كل شيءٍ يبدو غامضاً بلا تفسير ، أيعجزُ عالمٌ بأكملهِ عن حمايتنا؟ فعلاً إنه لأمرٌ غامض، ربما لو تكاتف العالم وتعاون على حمايتنا لعاد لنا الوطنُ والطفولة، وربما عاد أحبابُنا من الموت، ولكن هَيهات؛ فصمتُ العالم أمام ما مر علينا من تهجيرٍ وقتلٍ وسَلْب، أثبت أن العالم كان فقط للأقوى، وأنّنا من سيدفع ضريبةَ التجاذباتِ السياسية. حقاً إنه لأمرٌ غريبٌ وغامض، ما عدتُ أفهم من العالم شيئاً إلا أنّني "لاجئةٌ"وبدون هوية، وأنّي من بلد الدمار.
كان الهرب هو الخيار الوحيد للبقاء على قيد الحياة. ومن هنا تبدأ رحلة معاناةٍ طويلة؛ بحثاً عن وطنٍ جديد. كنا نعتقد أنّ رحلتنا ستكون قصيرة ربما أسبوعٌ واثنين، وبعدها سنعود؛ لذلك لم آخذ شيئاً من ذكرياتي السعيدة، تركتها جميعها تحت الحِجارة والحُطام الذي دفنها، كما دُفن قلبي في دوامةٍ من الحزن. كل ما أخذته معي كان شظايا وعدَّة رصاصاتٍ فارغة التقطتُها من سطح منزلي، ظننت أنَّني أستطيع حماية نفسي بها. بعد وصولنا إلى الحدود السورية فإذا بنا نسمع أصوات إطلاق النار، والطائرات تحلق فوق رؤوسنا، أخذ الناس يصرخون من حولي والأطفال يبكون، أخذنا نختبئ تحت أي شيءٍ نجدهُ من أمطارهم القاتلة إلى أن تهدأ الأمور، وبالفعل بعد مرور وقتٍ لا بأس به أخذت الأجواء تهدأ شيئاً فشيئاً، أكملنا طريقنا إلى وجهتنا. عبرتُ أنا وعائلتي حدود وطني، عبرتُ وفي حنجرتي أنينٌ، وصراخٌ خافت، وكلمةٌ حبيسةٌ تختنق، عبرتُ وأنا أحمل في عيني دموعاً أجد صعوبةً في إنزالها، وأكتم شهقاتٍ شعرتُ بغصةٍ كلما أردت إخراجها، وفي أصابعي برودةٌ لا أدري أهي من البرد أم الخوف؟ حديثٌ طويل متراكمٌ بداخلي لم أستطع البوح به، حتى أنّي كتمت أنفاساً عميقةً ربما لو أخرجتها لفاضت عيناي شوقاً وحنيناً وحزناً على وطنٍ بريءٍ تحول إلى جحيم. شعرت وكأن الحرب قائمةٌ داخلي.
أيامٌ وساعاتٌ مجهولة، لا أدري هل سيمضي اليوم ونرقد بعدها في مكانٍ آمن؟ أم سَيُفزِعُنا خوفٌ، وجوعٌ، وكابوسٌ آخر؟ .
خيامٌ متراصّة تَدُبُّ فيها الحياة رغم المعاناة، وعلى أرجوحةٍ معلَّقةٍ أمام باب الخيمة تلعب طفلةٌ صغيرة، وهناك طفلٌ آخر يلعب بسيارته الصغيرة بين الخيام. بداخل كل خيمة حكاياتٌ لا تنتهي عن أشكال المعاناة اليومية. كانت حياتنا عبارةً عن صفوفٍ وطوابير -صفوفٍ للطعام وصفوفٍ للمياه- ينتظر الجميع بصبرٍ من أجل الحصول على الطعام والشراب. بعيداً عن نقص الاحتياجات السكنية، والنقص في الموارد الغذائية؛ فكما أذكر كان طعامنا في المخيم عبارة عن قطعٍ من "البسكويت المالح الجاف ". أمّا عن الظروف المناخية القاسية فقد جلبت شهور الشتاء الباردة تحديات إضافية لم تكن بالحسبان؛ بسبب الأمطار الغزيرة والثلوج؛ فقد تسببت في كثير من الأحيان بحدوث فيضاناتٍ وانهيارات؛ مما جعل التنقّل من مكان إلى آخر -لتوفير الاحتياجات الأساسية- أمراً صعباً جداً. ومع حلول المساء كانت المعاناة تزداد؛ بسبب البرد الشديد، والرياح التي تعصف داخل الخيام وكأنها ستقتلعها وبمحاولاتٍ فاشلةٍ منّا للانتصار على برد الشتاء كنا نَلُفُّ أنفسنا ببطانياتٍ صغيرة؛ وذلك لعدم توافر وسائل التدفئة التي تحمينا من هذا البرد.
شعورٌ بعدم الارتياح يليهِ شعورٌ بالوحدة، ثم موجةٌ من الحنين الشديد إلى الماضي، والرغبة في استرجاع الذكريات وتمنّي العودة إليها. صعوبةٌ شديدةٌ في التواصل مع الآخرين، الشعور بأنهُ لا دور لي في هذه الحياة، دون شغفٍ أو فرص، دون أحلامٍ أو إنجازٍ أو تقدير، حتى دون ثقة. بدأت "حياةُ التَّشرُّد" في الغربة، بدأت حكاياتٌ وقصصٌ جديدة. كانت ظروفنا الاقتصادية سيئةً نوعاً ما. بعيداً عن المعاملة العنصرية التي تلقيناها من البعض.
أتجول في الشوارع والأزقّة، أحدق في تلك الوجوه وتلك التفاصيل الغريبة، أبحث فيها عن تفاصيلٍ من وطني، أبحث عن عنوانٍ لمنزلي الذي يحمل ذكرياتي ، أبحث عن أيامي وطفولتي، أبحث عن عامين سلبتهما الحرب من عمري. ألتفت يميناً ويساراً، لما الجميع يحدقُ بي؟ هل بدافع الشَّفقة؟ أم الحنية؟ أم أنهم يَروني وحشاً أتيت لسلب حقوقهم ومنازلهم كما يقول البعض؟ يتعاملون معنا على أنَّنا غرباء، ألسنا أمةً واحدة؟ ألسنا إخوةً في الإسلام؟ ألا يجمعنا دينٌ واحد؟ إذاً لما يتنافسون على إِذلالنا؟ لما يعاملوننا معاملةً طائفيّة؟ .
بين الكثير من الألم، والقليل من الأمل، بدأنا نرسم لأنفسنا عالماً بسيطاً يحتوينا ويحمينا من قسوةِ الحياة. استأجرنا منزلاً بسيطاً؛ لأننا في الغربة لا نستطيع الادعاء بامتلاك شيء؛ فاليوم نسكن شقةً صغيرةً ربما نغادرها بعد أيام أو نغادر المدينة بأكملها.
بعد سنةٍ من مكوثنا في الوطن الجديد "الأردن" دخلت المدرسة، كانت مرحلةً صعبةً نوعاً ما، لم أستطع التأقلم كثيراً، لم أكون صداقات، واجهت صعوبةً كبيرةً في التواصل مع الأشخاص من حولي، أشعر بالغربة، ليست غربة المكان، وإنّما غربة الروح؛ أشعر أنّ روحي لا تستقر في مكانها الصحيح، وكأنّ هناك حياةٌ أخرى تنتظرني في مكانٍ آخر. ربما كانت مشاعر الخوف والقلق تسيطر علي، كانت مشاعر مختلطة لكنَّ الحزن كان طاغياً نوعاً ما، بدا كل شيءٍ صعباً، كانت المدرسة مختلفة عما عهدته، آليات وطرائق دراسية مختلفة ومتعددة، لم أستوعب هذا التوسع فالبداية، لم أستطع مواكبة وتدارك الأمور، وخاصةً أنّي بدأت معهم بعد بداية العام الدراسي بشهرين تقريباً، أي أنَّ كل شيءٍ كان ضدي أو أنَّ هذا ما بدا لي. كان عليّ مواجهة الأمر بأي طريقة إن أردت أن أكمل حياتي الدراسية، على الرغم من روحي المنهكة وجب عليَّ النهوض والمثابرة، أنتظر ذلك الفجر الذي سيشرق على قلبٍ متعب. مرت سنواتي الدراسية واحدةً تلو الأخرى، قابلت في كل سنة أبطالاً جدداً لقصتي منهم الجيد ومنهم السيء.
مرت الأيامُ، والشهورُ، والسنوات، مرحلةً بعد مرحلة، لم تخلو أيامي من الدروس القاسية، لم تخلو من العقبات والصعوبات، لم تخلو من تذكيري بأنَّني" لاجئة" بطرائق مباشرة، وغير مباشرة وكأنَّني من اختار هذا الواقع، لم يتوقف العالم عن إلقاء ظلاله الثقيلة عليّ. لكنني ومع كل ما حصل أدركت بأن كل ما أعاقني من تحديات لم تكن سوى فرصٍ خفية للنضج، أدركت بأنني سأخرج من هذه القوقعة وسأغادر تلك البقعة المظلمة، أدركت بأن العقبات التي واجهتها هي الحياة، أدركت بأن الحياة شقاء، وإذا ما انتظرنا مرور هذه العقبات لنعيش هذه الحياة، فعندها سيكون الأوان قد فات وسَنَجد أنّ الوقت مر كلمح البصر.
إنَّني اليوم وبكل فخرٍ أعتبر وصولي إلى ما أنا عليه إنجازاً كبيراً وعظيماً. أفتخر بنفسي جداً، لا أنكر أنَّني قررت الاستسلام مراتٍ عديدة، شعرتُ بالتعب في كثير من الأحيان، لم يكن ذلك سهلاً أبداً، لقد ترك في نفسي أثراً، لكنّي على الرغم من ذلك نفضتُ الغبار عن نفسي ونهضتُ مجدداً لأَبدأَ من جديدٍ بقوةٍ وعزيمةٍ أكبر.
كانت بالفعل رحلةً شاقة جداً. هذه لن تكون نهايةً لقصَّتي، بل ستكون بدايةً جديدةً لقصةٍ جديدة، قصةٍ مليئةٍ بإنجازاتٍ سأسعى إلى تحقيقها، سيكون أبطالها أشخاصاً يحبّون الفوز، ويسعَون إليه، أشخاصاً يكرهون الهزيمة ولا يتقبَّلونها. سأحلم بالماضي الذي مررتُ بهِ، لن أدع الظروف تحكمني، ولن أغير وجهتي مهما كانت رحلتي شاقّةً ومتعبة. سأنسى أو أتجاهل، ثم سأتخطى وأكرر المحاولة مرَّة، ومرَّتان، وأربع لا يهم. سأحصل على ما أريد، وسأكون ما أريد. لن يمسكني قيدٌ ، ولن تحدّني جبال، لن تأسرني فكرةٌ ولو عُلِّقتُ بأغلال، أمّ عن الاستسلام فحتماً سيكون محال.
ومن هنا ندرك أنَّ ما نسعى إليه في هذه الحياة، هو قمَّة الإصرار في مواجهة الفشل، ندرك أنَّ كل خطوةٍ نتَّخِذُها قادرةً على تغيير مسار حياةٍ بأكملها؛ لذا علينا التفكير جيداً قبل اتخاذ القرار، ندرك أن الظروف السيئة ليست مبرراً كافياً لمعظم حالات الفشل، والأهم من كل ذلك أن تتعلم أنّ الرضا ليس في الحصول على كل ما تسعى إليه، بل في تقبُّل أن بعض الأشياء ليست من نصيبك، مهما كان سعيك جاداً. فالسعي في النهاية ما هو إلا إرضاءٌ لنفسك، بينما الرضا الحقيقي يكمن في مدى تصالحك مع مجهودك الذي قدمته، مهما كانت النتائج.
في النهاية كل شيء سيصبح على ما يرام، كل شيء سيمضي، ذلك الحزن الذي ظننا أنه لن يمر، سيصبح مجرد ذكرى تداهم عقولنا من وقتٍ إلى آخر. سيدخل النور إلى قلبك، وتتسلل الحياة إلى جذورك، وستعود ثمار الشغف إلى أشجارك، وستغدو صحراءك خضراء مُزهرة.