أن تكون بطلًا لا يعني بالضرورة أن تحرر شعبًا من العبودية، ولا بالضرورة أن تقود جيشًا للحصول على الاستقلالية، ولا حتى باختراعك مفاعل للطاقة النووية، ولا بامتلاكك قدرات خارقة واستثنائية، فربما جيش المرء نفسه وشعبه عائلته الصغيرة وكل ما انجزه أنه قرر أن لا يستسلم واستمر، استمر بالرغم من آلامه النفسية والجسدية والاجتماعية.
أما عن بطلتي فعدوها الفراغ، ترعرعت في إحدى الأحياء الشعبية في العاصمة عمان، تفوقت في دراستها الثانوية، وبعد قبولها في الجامعة الهاشمية قسم الهندسة الطبية، ابتدأت الرحلة فكُرٍمَتْ كإحدى العشرِ الأوائل على مستوى الجامعة في أولمبياد الهاشميةِ الأول للغةِ العربيةِ، ثمَّ بدأتْ رحلةَ شغفِ التعلمِ مع منصةِ إدراك واجتازت من خلالها عشرات الدورات، وتميزت بالخط العربي والفن التشكيلي، فحصلتْ على لقب "دفنشي الهندسة" عن فنها التشكيلي، ثمَّ خرجت أبياتها الشعرية المتواضعة إلى النور لأول مرة من خلال نافذة مسابقة "صورة ونص".
مررنا جميعا بمعيقات في جائحة كورونا أما هي فتحيزت إلى أن تسخر موهبتها لتوعية الناس، فكتبت أول قصة قصيرة لها وفازت بها بجائزة موهبتي من بيتي- وزارة الثقافة على مستوى المملكة بعنوان "قتلت أمي" لتوعية المجتمع حول خطر المخالطة أثناء الجائحة، ولحبها الشديد للرياضيات شاركت في المسابقة العلمية التي نظمتها نقابة المهندسين الأردنيين وكانت من الفائزين بها.
أما عن حبها للمقالات العلمية فله حكاية أخرى، ولإيمانًا منها على ضرورة إعلاء قيم المسؤولية شاركت وتفوقت على مستوى الأردن في مسابقة "صدقني" عن مقالتها ("ثقتنا" تفسح المجال لطرح أفكار مبتكرة لإعلاء قيم المصداقية ومحاربة الإشاعة)، ولأن البحث العلمي من أهم أسباب نهوض المجتمعات كُرمت من قبل اللجنة العليا المشرفة على جائزة البحث العلمي لطلبة الجامعات الأردنية 22، عن بحثها العلمي المعتمد على المنهج الكمي والذي قدمته بعنوان: " دور مؤسسة ولي العهد في زيادة الوعي الفكري والثقافي لدى الشباب من وجهة نظر المشاركين في برامج ومبادرات المؤسسة"، ثم كرست ما تبقى لها من وقت في مرحلة البكالوريس لمشروعِ التخرج من قسم الهندسة الطبية والذي آثرت بأن يكون جنديًا في جيش محاربة جائحة كورونا، وبعد البحث الطويل والتعلم الذاتي للبرمجة خرجت بكمادة الكترونية لتكون بطلة مشروع تخرجها الذي حصدت به علامة أ+ بجدارة واختتمت بها المرحلة لا الرحلة وللرحلة بقية.
ما إن لبست ثوب تخرجها ما لبثت حتى ألحقته بثوب زفافها، ثم يتوج هذا الزواج بحملها، فتكاد تجزم بأن أفضل جائزة تحصل عليها الأنثى هي الأمومة، قالت: والله إنها نعمة لا تقدر بأي ثمن، تتفكر بكيفية تجلي عظمة الخالق في اللحظات التي تسمع بها صوت نبض جنينها لأول مرة، لتكون من أجمل ذكرياتها فلا كلمات تصف ذاك الشعور.
اخبرتها الطبيبة عن وجود خلل ما في الفحوصات، لم تكن سعادتها وهي تتحسس صورة السونار بأصابعها تجعلها تنصت لما تخبرها به الطبيبة، نادتها بلغتها العربية الركيكة وصوتها الحاد، وقالت: لربما هذا الحمل لن يتم، اسودَّ النور في عيناها فما عادت ترى إلا السواد ولا تسمع إلا نبض قلبها المتسارع، خرجت مسرعة ونسيت صورة السونار فما إن وصلت نهاية الممر تذكرتها فعادت لتأخذها وانفجرت من البكاء.
من هنا ابتدأت رحلة الضجيج واللاهدوء والقلق رحلة الكشف عن المرض، لن تتوقف عن تذكر طبيبة الاشعة وهي تضع السونار على رقبتها النحيلة، تنظر لها لبرهة وللشاشة برهات أخريات وهي تبلع ريقها باستمرار ووجه زوجها الذي يتصبب عرقًا وهي عالقة على حبل التيه، أخذت الطبيبة تنادي أطباء آخرين ويتحدثون بالإنجليزية ظنًا منهم أنها لن تفهم، ففهمت أنه ورم كبير الحجم وغير مسبوق وحالة فريدة واستثنائية في عنقها يتربع على عرش شريانها السباتي، لن تنسى نظرة الطبيبة لها وعيناها تلمع ثم تسألها عن شهر حملها، فأجابتها بهدوء شديد: الرابع، ابتلعت ريقها مرة أخرى وطلبت أن نذهب لغرفة رئيس أطباء الأشعة فربما يكون له رأي آخر ، وما كان له سوى أن يقول يجب أن ننتظر لما بعد الولادة.
مشاعر الألم اختلطت بمشاعر الفرح فهي اتلاشى وابنتها تكبر في احشاءي والورم في عنقها يقاسمهاالشعور، تسعة أشهر من الألم والثقل والإعياء الشديد والتعب والمواعيد المتتالية للطبيب.
وها هو اليوم المنتظر، يوم اللقاء بعد الاشتياق الطويل، يومان كاملان في غرفة الولادة تجرعت بها اشد انواع الألم، الألم الذي تخشى أن تتحدث عنه فلا تعطيه حجمه الكبير، تكاد تسمع بطلتي صرخات : إننا نفقد الجنين، وعقلها المشوش من شدة الألم لا يستوعب أن هذا الجنين هو ابنتها، صرخات أخرى : جهزوا المريضة لغرفة العمليات، وأخرى : لنفقد الجنين في سبيل إنقاذ الام فخطر العملية على حياة الام كبير.
قالت: اللهم إني استودعتك ابنتي استودعتك نبضًا يرتسم على الجهاز جانبي، يا رب وإن جاءت مشيئتك في أن يُقبض إحدى روحينا فاقبض روحي واحفظ ابنتي.
رددت دعاءها كثيرا إلى أن سمعت صوت الاجهزة حولها وكأنها تقول: إنها النهاية، اخذت تصرخ من شدة الألم تتوسل الممرضات اعطاءها مسكن للألم، تتوسل مرة وتضرب برأسها السرير مرات أخرى، تصرخ: "يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا)، أخذ الضوء في عينها يصبح اثنان وأربعة وثمانية وأجراس الرحيل تدق، ركضت إحدى الممرضات لجوارها تسألها: ماذا تشعرين؟
اجابت: اشعر بأنها النهاية أنا لا أرى شيء ، بردت أطرافها وذهب ألمها وسقف الغرفة بات بعيدًا جدًا والنور ينطفئ في عينها تدريجيًا، لم يخطر في ذهنها حينها إلا كلمات محمود درويش: "واعشق عمري لأني إذا مت، أخجل من دمع أمي" .
ارجوك يا أمي سامحيني ولا تحزني على فقداني كما حزنت على موت أخي صاحب الثماني عشر ربيعًا، لا تحزني على فقداني كما حزنت على موت اختي ذات العامين ، سامحيني يا غاليتي، آسفة يا ابنتي لم أكن قوية بما يكفي.
أخذت الأجهزة تصفر فتنذرها انه الرحيل فما لها إلا أن رددت: اشهد أن لا إله إلا الله واشهد أن محمدًا رسول الله ، استودعتك اللهم قلبًا لا يحزن أبدًا.
وغابت بطلتي عن هذه الدنيا.
وبعد ساعات طوال استيقظت من غيبوبتها وعدد كبير جدًا من الأطباء حولها يسألها أحدهم : ما اسمك؟
أجابت: أنا نبأ.
الطبيب مسترسل: أنا طبيب الباطنية لقد فقدت الوعي لساعات وها أنت ترجعين كمن رجع من موت محتم بأعجوبة.
نبأ: وابنتي ؟
الطبيب: ما زالت قوية كأمها، ساعدينا في إتمام هذه الولادة يا نبأ.
أي فرحة تلك وأي قوة وضعها الله فيها لتلد بأعجوبة، قالت إحدى الممرضات لزميلتها :سجلي ساعة الولادة إنها الساعة 12:06 صباحًا
بلهفة قالت الطبيبة لها: احتضني طفلتك.
تمنت لو أن الدقيقة السابعة بعد السادسة لم تأت وتوقفت الساعة، تمنت أن ينقطع المشهد فيمحي ما قبله ولا يأت بعده شيء، أنستها نظرة ابنتها لها 271 يومًا وليلة من القلق والتعب والخوف .
أصبح حضن ابنتها هو ملاذها فكلما اعتلت عليها مشاعر اليأس وضعفت، توسدت صدرها الدافئ وتلحفت كف يدها الصغير، ونست كل ما هو منتظرها.
قررت أن لا تنتظر موعد رحيلها لأننا كلنا راحلون وان تعيش كما لو أنها لم تكن تعلم أن هناك كتلة كبيرة اخذت من عنقها مسكنا ونسجت خيوطها في شرايينها تكبر معها كل يوم، فبدأت رحلة جديدة في دراسة الماجستير في الإدارة، وحضرت لكتابة بحثها العلمي الثاني، أتمت عامها الدراسي الأول بتفوق وكأنها تعود لطبيعتها الطموحة.
إلى الآن لم يقبل أي طبيب إجراء عملية استئصال الكتلة لها، لخطورتها ودقتها وهي تتجاهل آلامها وتمضي.
يأتي الطبيب الوحيد الذي قبل بحالتها الفريدة من المستشفى الميداني في غزة ويحدد لها موعدًا لاستئصال هذه الكتلة من عنقها موعدًا لا تعلم ولا يعلم نتيجته أحد.
لا أدري ان كانت بطلتي ستعيش بعدها أم لا،ولا تدري كم نسبة نجاح عمليتها، ولا اعلم إن كانت ستتم الستة والعشرين خريفًا أم لا، لكن انا على يقين أن ابنتها وأمها ستكونان فخورتان بها يومًا ما.
بطلتي هي نبأ، هي أنا، هي كل أم وضعت راحة أبناءها على راحتها، هي كل محاربة لكل الأمراض التي تفتك بنفسية الإنسان قبل جسده، هي كل طموحة تتعلم وتجتهد وتثابر ولا مستحيل عليها، هي كل امرأة لا تعرف معنى للاستسلام هي فقط تستمر.