لا أجيد صف الكلام ولا تأليف العبارات ولكنها كلمات في خلجات صدري،،
الحمدلله على نعمة الإسلام واليقين والاطمئنان،،فلقد أنعم الله علي بأجمل ابن في الوجود اسميته (عبدالله ) فهو رفيق روحي... وفلذة كبدي .. وأُنسي. يذكرني بالله دوما من صلاة وطاعات وعبادات،،،فله من اسمه نصيب،،، فمن خلال ثمانية عشر ربيعاً التي تعايشناها معاً أماً وابناً لم تكن علاقتنا علاقة نمطية تقليدية سلطوية كما يعرفها الجميع في مجتمعنا الشرقي،،، وإنما كانت علاقة حب وسمو وصداقة وألفة بين الأرواح قبل أن تكون علاقة عادية روتينية.
عبدالله ... ولدي الغالي... لقد كنتَ أيقونة العزم والتحدي لنا جميعاً ،،، فلقد كنت تذكرنا دوما أن نستمر في طريق التميز بكل عزم و إصرار دونما تعب أو كدر.. ولقد أظهرت ذلك في عزمك على الاستمرار في مشوار تعلمك دوماً وحتى منذ أن تم تشخيصك بورم متقدم في الدماغ و أنت تبلغ من العمر 15 ربيعاً.. بالرغم مما كنت تعانيه من ألم و إرهاق عندما تم إجراء عملية استئصال الورم الأولى والتي استغرقت حوالي سبع ساعات طوال مررن عليّ كدهر بلا نهاية وأنا أتضرع لله أن يحفظك ويحفظ حواسك ،،، فلقد أعلمنا الفريق الطبي قبل العملية بالخطورة العظمى من العملية لوجود الورم في موقع حساس بين الأوعية الدموية والعقد العصبية ومراكز الحواس في الدماغ،،، فما كان منا إلى التسليم عبدالله لله تعالى ثقةً بأن الله لن يضيّعينا وانه سيمدنا ويمدّ عبدالله بالقوة ،، ولهذا كان لساننا يلهج دوماً ( اللهم قوة)،،،
وبعدما استيقظ بطلي من التخدير وكنا جميعاً ملتفين حوله كالتفاف العقد للعنق... متخوفين من أي أعراض جانبية للعملية من شلل جزئي أو فقد للنطق أو الذاكرة،، ارتسمت على محياه المتعب ابتسامة مرهقة تعلن انتصاره على صعوبة العملية وقهر المرض رغم تعبه الشديد،، ابتسم وقال : ( الحمدلله). الابتسامة ما كانت تفارق ثغرك الباسم بعد كل جلسة اشعاع او جرعة علاج كيماوي ،،لقد كنت تردد دوماً أنا قوي والسرطان ليس سوى ورم خبيث ضعيف لن ينال من عزمي وارادتي،، ومع مرور الأيام المثقلة بالتعب والتحدي من كثرة المراجعات في المستشفى والمواعيد لجرع الكيماوي على أشكاله وأنواعه أو العلاج الاشعاعي الذي كان ما يقارب 50 جلسة متراوحة الطول.. كنت دائما تأخذ الموضوع على أنه خطوة للأمام في سلم الشفاء... كنت دوما يا بطلي تقول لقد اختار لي ربي هذا المرض ليبني في نفسي القوة والعزم والاصرار على دحر هذه العدو الخبيث.. واذكر كم كنت ترغب في ارتشاف القهوة بالرغم من ألم العلاج الكيماوي وهو يسري في أوردتك...وتصر على أن نستمع لفيروز وهي تغني " ع بالي حبيبي" أو للجسمي وهو يقول" مهم جداً وجودك في تفاصيلي..." كنا ندندن ونتسامر في الجلسات وكلٌ منا يعلم في صيرورة نفسه أن الألم حارق ومؤلم حيث أن العلاج الكيماوي كان قوياً على تنوع أشكاله ... وكل مرة يكون فيها تغيير لنوع العلاج،، كنت يا بطلي تستقبل ذلك بحب وهمة من أجل الارتقاء في طريق الشفاء،، فلقد كنت متفائلاً حتى حدود السماء....
وعند عودتنا بالرغم من بداية ظهور أعراض العلاج عليك،،، كنت تتحامل على نفسك وتجر جسدك جراً،،،و تدخل يا غالي في مرحلة الصراع مع أعراض العلاج من تعب عام ودوخة ومغص وألم في جميع نواحي جسدك،،، ومع ذلك كنت تقف وتحارب بقلب مغوار... يا الله كم كنت قوياً يا غالي ،،، يا بطلي ،، ولو وزّع الألم الذي تشعر به على البشر لأتعبهم ،،،ومع ذلك لم يكن هذا عذراً للحزن والاكئتاب،،، بل كنت شعلة للبطولة وأيقونة للكفاح ضد مرضك العضال...
يا بطلي كنت طموحاً حتى النخاع،،، ففي هذا العام كنت طالب ثانوية عامة ،،، كنت قلقة عليك كيف لك أن تتحمل هم العلاج والورم العدواني في دماغك وهم دراسة المواد الثقيلة ،،، ومع ذلك شددنا أزر بعضنا بعضا وبدأنا فصلاً جديداً ألا وهو التحضير لامتحانات التوجيهي بالرغم من فقد أغلب بصرك وعدم قدرتك على الابصار الجيد بسبب تجبر الورم على عصبك البصري وتأقلمك مع ذلك واصرارك على المضي في حياتك اليومية من خلال تدريب نفسك وتكيّفها على ذلك،،، تعلمنا منك أن نوظف حواسنا الأخرى تعويضاً عن الضعف الشديد لحاسة أخرى...
يا مركز اشعاع البطولة والاصرار في بيتنا،،، استمريت في مشوار علاجك ودراستك ،، ولا انكر أنه في لحظات كانت تمر عليك لحظات ألم نفسي وذلك لأن حلمك كان أن تصبح لاعباً مشهوراً بكرة القدم لمهارتك العالية فيها ولكن مع تعطل بصرك بسبب المرض وازدياد رهيب في الوزن بسبب العلاجات المحفزة له عدا عن التعب والضعف في العضلات والأرجل بسبب الورم ذاته،،، كنت تفضي لي ذلك ونأخذها في جلسات التأمل التي طبقتها معك حتى نتشافى معنوياً وجسدياً من هذا الضيف العدواني غير المرغوب به،، ولكننا كنا نقول دوما ( اللهم قوة) ،،، قوة للمضي في طريق العلاج،، قوة في طريق الأمل ،،، قوة في طريق التميز،،،
ومضت الأيام واستمرت وكل من يقابلك يا بطلي يتعلم منك البطولة والشجاعة والبسالة،، وأنت في ذاتك تجاهد كل أنواع وأشكال الألم ،،،
في أخر جلسة كيماوي لك،،، وهو نوع حارق جديد مختلط بأنواع أخرى من أجل الفتك بهذا الورم العدواني المتنامي الذي بدأ يضغط على أطرافك وافقادك القدرة على المشي وممارسة حياتك اليومية،،، مكثت في مستشفى الملكة علياء العسكري – مركز الأورام ما يزيد عن خمس أيام ،،، تلقيت فيه أشكال علاجية عديدة،، كنت معك في كل دقيقة ونحن معاً بروح البطل المغوار نكافح أعراض العلاج،، كنت أحملك بكل حب وحنان على كتفي لتستطيع الذهاب إلى دورة المياه فلقد اصبح وزنك يزيد عن 120 كيلو غراماً ،، وأطعمك بيدي الطعام المحدد لك بنوعه وكميته،، ونحن نتسامر ونتحدث عن آمالنا وأحلامنا تارة ونصف الألم والتعب تارة أخرى،، وفي أحد الأيام رأيتك تفكر شارداً مستغرقاً في تفكيرك،، راودني شعور بأنك بدأت في مراحل الانتكاس النفسي والدخول في دهليز الاكتئاب،،، فقد هيأنا الطبيب أن الاكتئاب هو من الأعراض القوية التي تصاحب هذا النوع من العلاج وقد كنت متخوفة مرتابة من هذا الموضوع،، فما كان مني إلا أن تواصلت خفية مع افضل واقرب صديق لك،، ( علي) وهو اماراتي الجنسية واخبرته بأحدث تفاصيل علاجك،،، وكان علي على دراية بكل رحلة علاج ولدي فهما مقربان جدا يتحادثان دوماً ويتواصلان بين الفنية والأخرى،، فما كان من علي إلا الاتصال والتحدث مع عبدالله الذي ارتفعت معنوياته لعنان السماء وشحنت ايجابيته كثيراً ،،، بالرغم من أن حديثه مع صديقه كان حديثاً عادياً ولكن الأثر كان عظيماً....
آآآآآآه يا غالي ،،، كم من المواقف وكم قد طبعت في ذاكرتنا وحفرت في قلوبنا،،، تعلقنا بك وتعلمنا دروساً تدرّس عن الاصرار والعزيمة والحب والتحدي،،، لقد فتك بك المرض آخر فترة بعد جرعة الكيماوي الأخيرة،،، في تلك الليلة أيقظتني عدة مرات،،، وسألتني يا أمي هل أنا قوي؟ قلت لك بالرغم من التعب والارهاق الذي ظهر على محيانا لطول سهرنا وتواصل استيقاظنا.... أجبتك بقولي: نعم يا بطلي ،،، أنت قوي ،،، نحن أقوياء،،، رددنا سمفونيتنا الخاصة بنا ،،، اللهم قوة،،، اللهم قوة،،،، لقد كانت نظراته في تلك الليلة مختلفة عن كل الأيام،،، نظراته مركزة صامتة ذات معنى،،، لم يدر في خاطري أنها نظرات الوداع ،،، آآآآآخ يا ولدي لو دريت ما تركتك تفارق حضني وصدري أبداً،،،، بعدها بساعة بدأ نفسك يضيق وتشعر بعدم القدرة على التنفس بكفاءة وبشكل طبيعي،،، فما كان منا إلا أن ذهبنا مسارعين للطوارئ وقد صنف الأطباء وضعك الحرج بالطوارئ القصوى،،، لم نفهم ما الذي يحدث عزلوك عنا ولم أرك إلا وأنت مغيّب مخدّر في غرفة العناية الحثيثة،، لم استطع استيعاب ما يحدث لتسارع الأحداث... جلست بجانبك أحادثك وانا على يقين أنه بالرغم من فقدانك لوعيك أنك تسمعني،،، أتذكر يا بطلي ما كنا نفعل عندما نواجه الصعاب؟.... وأخذت في التحدث معك وسرد الأحداث والمواقف التي تخطيناها سوياً كأسرة متماسكة واحدة ،، كسرنا فيها كل العقبات ودعمنا أنفسنا برغم شدتها وصعوبة مراحلها،، ولكننا سرنا بقلب جسور...عندما أعلنت الطبيبة وفاة ولدي بقولها احتسبي ابنك عند الله وعظم الله اجركم ،، أصابني جليد في قلبي وانهمرت دموعي من عيني انهارا تصب صبا،، ليس اعتراضا على قدر الله معاذ الله،،،
انما لادراكي ان الوقت الذي امضيته مع ولدي لم يكن سوى لحظات في رحلة الحياة،،بكل تفاصيل الحياة من حلوها ومرها ولحظات المرض والتحدي،،،كيف بهذه السرعة مضيت وفارقتنا ي ولدي،،
دوما كنا نقول وبصوت مسموع (اللهم قوة) ،،كنا نطلب العزم والقوة من الله القوي،،
ندعوه يوميا بأن يجبر قلوبنا بمعجزة،، والمعجزة كانت بلسم القبول لقضاء الله وقدره بمصابنا الجلل وفراق حبيب القلب،،
كان يتعهدني بقيام الليل وطاعة الله والدعاء وقت السحر والتجهز لصلاة الفجر بالنداء بصوته الندي (الصلاة يا والدة)،، رضي الله عنك يا ولدي واسكنك فسيح جناته،،،
لم تفارق البسمة وجهك السمح بالرغم من وجعك وألمك والصداع الفتاك برأسك،، وعندما يشتد عليك الألم كنت تلجأ لله بقراءة سورة الفاتحة دوما،، أو الطلب مني بقراءة القرآن على رأسك،،
تحملت العلاج واعراضه فقد كنا ندعو اللهم بردا وسلاما،،، فقد كان جمرا في عروقنا،، الحمدلله على قدره ،،
يا شمعة قلبي،،
انار الله لك قبرك وجعله روضة من رياض الجنة،،
علمتني الصبر على كل ما يمر بهذه الحياة بالرغم من غصة الألم على فراقك،،،
واعتصار قلبي لعدم رؤيتك يوميا،، اعذرني هو قلب الأم يا حبيبي،،
ربط الله على قلبي وجعل لقائنا في جنات النعيم،،
عبدالله حبيبي،،، تمر ذكرياتنا في خاطري كل لحظة،، احاول الابتسام عند تذكرها،،، فتسبق الدمعة البسمة ولكني استدرك ذلك بقول الحمدلله،
،اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها لفراق قطعة قلبي بهذا الوقت القياسي،،
ثمانية عشر عاما مضت سراعا كأنها لحظات سريعة في قطار الحياة،،
يا رب اجبر قلبي بلقاء ابني في جنات النعيم