تَعُجُّ حياتنا بعددٍ هائلٍ من الأشخاص، بعضهم يأتي و يذهب دون أثرٍ يُذكر، وآخرون راسخون فيها لا تُثنيهم عواصِفُها و لا تُغرقهم سحابةُ صيفها، و في أحلكِ محطاتها ندركُ تمامًا أنَّهم الأبطالُ الحقيقيون الذين يشكلون حجرَ الأساسِ فيها، و فورَ اختفائهم نلحظُ انهيارَ منظومةِ استقرارِنا النفسي و سلامنا الداخلي، و هذا ما جعلني أرغبُ و بشدّة أن أُسلطَ الضوء على الجنديةِ المجهولة، ومن تعملُ دائمًا خلف الكواليس (والدتي) لتكون هي بطلةَ قصةِ حياتي المتواضعة.
أمي في نظرِ المجتمع ربَّةُ منزل، و لكنها في نظري الأمُّ و الصديقةُ والمعلمةُ والطبيبة و مستودعُ أسراري و سرُّ سعادتي ، وقد آثرتْ أن تدَّخرَ الوقت الذي تنفقهُ قريناتها في البحثِ عن وظيفة، لتستثمره في تربيتي و سماعِ مشاكلي المتلاحقة و توجيهي وإرشادي إلى الطريق الصحيح، فنشأتُ لا أخشى والدتي بل على العكس فقد كنت أحدّثها بكل صغيرةٍ و كبيرة في حياتي و أتَّبِعُ إرشاداتها في حضورها وغيابها، وذلك يعود إلى اتّباعها أسلوب الإقناع في تربيتي و إظهارِ حُبها لي و حرصها على مصلحتي على الدوام.
لولا أن منَّ اللهُ عليّ بوجود أمي لم أكن حتمًا لأتفوقَ في دراستي، لكنَّ تشجيعها الدائم ودعمها المتواصل جعلني أواظبُ واجتهد حتى وجدتُ نفسي الآن وقد أصبحتُ طالبةَ دراساتٍ عليا متفوقة على مشارف التخرج، و قد حصلتُ خلال سنواتِ دراستي المدرسية و الجامعية على العديدِ من الجوائز وشهاداتِ التقدير إلا أنَّ شهادةَ الفخرِ التي لمستُها في عينَي أمي و كلماتها و أولَ هديةٍ تلقيتها منها لا تزال هي الأغلى على قلبي.
و لم تقتصر جهودُ أمي في تشجيعي على الدراسة فحسب، بل كانت أيضًا السبب في حبي للمطالعة ، و رغم قراءتي للعديد من الكتب خِلالَ الخَمسَةِ و العِشرِينَ رَبِيعًا مِن حَياتي إلا أنني ما زلت أذكر تلك الكتب الصغيرة الملونة التي كانت تُهديني إياها و تقرأها لي عشراتِ المرات حتى أصبحتُ الطالبةَ الوحيدة التي تقرأُ باللغتين العربية والانجليزية من أولِ يومٍ وطأتْ فيه قدماي عتبةَ المدرسة.
طوال سنوات عمري كنت أعي روعة أمي، لكنني لم أُدرك عَظَمةَ حضورها في حياتي إلا عندما اختفت منها دون سابقِ إنذار، كان ذلك عندما سقطت فجأةً على الأرض و قضتْ تسعةَ أيامٍ في العنايةِ المركزة، أدركتُ حينها أنني ضعتُ تمامًا، و أحسستُ أنني ما زلتُ طفلةً تحتاجُ حضنًا دافئا عندما تخاف، و يدًا تربتُ عليها عندما تشتد بها مصاعبُ الحياة، و شعرتُ بقسوةِ الحرمان و بصدمةِ الفقد.
وحاولتُ بِشتى الطرق خلالَ إقامتها في المشفى أن أتأقلمَ مع غيابها و لكنني أُرهقتُ جدا فكيفَ يمكنُ لإنسانٍ واحد أن يعملَ طاهيًا و مرشدًا و مدبرًا لشؤون المنزل و شريكًا في آنٍ واحد ، و أدركتُ أنَّ الوقتَ الذي كنت أقضيه في دراستي سعيًا وراءَ نجاحاتي و إنجازاتي، أصبحتُ مضطرةً لتقليصه إلى أقصى حد لأدَّخرَ ما تبقى منه في الأعمال المنزلية والاهتمام بشؤون الحياة اليومية. اشتقت حينها إلى أمي، وإلى نفسي المدللة التي كانت تحظى بالطعام اللذيذ و البيت النظيف و الدعوات الغزيرة بالتوفيق صباح مساء.
لم تكن فترة مرضِ أمي طويلة، لكنها كانت كافية لتكشفَ لي عُمقَ محبتي لها، ولتُعيد رسم ملامحِ أهميتها في حياتي. في تلك اللحظات العابرة، أدركتُ أنني أسيرُ بدعواتِ أمي، وأطمئنُّ بسماعِ صوتِ أمي ، و أبتهجُ برؤية أمي، وأيقنت أنَّ وراء كل فتاةٍ ناجحة و سعيدة وواثقة من ذاتها بطلةٌ خفيةٌ تعملُ في الظل هي الأم .