في زمنٍ لم يكن كأي زمن، كان الشرق الأوسط يمر بمرحلة من التحولات الكبرى، والأحداث السياسية المعقدة التي هزت أركان العديد من الدول. في قلب هذه العواصف، برز رجل اسمه وصفي التل، رئيس وزراء الأردن الذي شق طريقه في عالم السياسة بقوة، وأصبح رمزًا للكرامة والعزّة والنزاهة. لم يكن مجرد رئيس وزراء عادي، بل قائدًا ملهمًا يقف على أرض صلبة من القيم والمبادئ.
وصفي التل كان يؤمن أن العروبة ليست مجرد انتماء، بل مسؤولية تاريخية، وأن الوحدة العربية هي السلاح الوحيد في مواجهة كل أشكال الظلم والاحتلال. لم يكن يرى في الأردن مجرد دولة صغيرة تحاول أن تكتفي بنفسها، بل كان يؤمن بأن الأردن يجب أن يكون جزءًا لا يتجزأ من مشروع التحرير العربي الكبير. وفي حين كانت بعض الأنظمة العربية تعقد الصفقات السرية وتتنازل عن حقوق شعوبها، كان وصفي يقف وحيدًا في مواجهة تلك المؤامرات، رافعًا شعار "الكرامة أولاً".
البدايات الصعبة:
منذ اللحظة التي تولى فيها رئاسة الوزراء، وضع وصفي التل رؤية طموحة تهدف إلى تحويل الأردن إلى نموذج للحكم الرشيد، حيث العدالة والشفافية هي الأساس. شق طريقه في إصلاح الاقتصاد، ورفع مستوى التعليم، وطوّر البنية التحتية. لكن الأهم من ذلك كله، كان يسعى لجعل الأردن دولة قوية قادرة على الوقوف في وجه الاحتلال الإسرائيلي وداعميه.
كان يؤمن أن الاحتلال لا يتوقف عند فلسطين وحدها، بل هو مشروع استعماري هدفه ضرب وحدة العالم العربي والسيطرة على موارده. لذا، كان وصفي لا يتوقف عن الدعوة لمقاومة الاحتلال في كل محفل دولي، ويدافع بشراسة عن حقوق الدول المحتلة، سواء كانت فلسطين أو أي دولة عربية أخرى. كان يعرف أن هذه المواقف تجعله عدوًا في عيون الكثيرين، لكنه لم يكن يخشى شيئًا.
التحديات والمؤامرات:
ومع مرور الوقت، بدأت بعض الدول التي تفتقر إلى الشعور بالعروبة والإخلاص تنظر إلى وصفي التل بعين الريبة. لم يكن لرجل مثله أن يُقبل في عالم تحكمه المصالح الضيقة والتحالفات السرية. زادت شعبيته بين الشعوب العربية التي كانت ترى فيه أملًا في إعادة الكرامة والعدالة، لكن في الوقت نفسه، زاد الأعداء الذين رأوا في تحركاته خطرًا على مخططاتهم.
في هذه الفترة، كانت بعض الأنظمة العربية قد بدأت تنزلق في طريق التنازلات والخضوع للضغوط الدولية. بينما كان وصفي يصرخ في وجههم "فلسطين ليست للبيع، ولن يكون هناك سلام دون حرية!". كانت هذه الكلمات تُزعج من يرون في الاحتلال فرصة للتعاون وتحقيق مصالحهم الشخصية.
بدأت التهديدات تصل إليه، مرة تلو الأخرى، لكنه لم يكن يلتفت إليها. كان واثقًا بأن الشعب الأردني والعربي بأسره يقف خلفه، وأن صوته سيمتد ليشمل كل من يؤمن بالحق والعدالة. لكن ما لم يكن يعرفه هو أن هناك مؤامرة أكبر تُحاك في الظلام، مؤامرة خططت لها قوى عديدة اجتمعت على خيانة وصفي وإسكاته إلى الأبد.
السيناريو المحكم لاغتياله:
في إحدى الليالي، وبينما كان وصفي منشغلًا بإعداد خطاب جديد سيلقيه في مؤتمر دولي، وصلته معلومات سرية تُفيد بأن هناك اجتماعًا سيعقد بين قادة منظمات ودول تنسق لبيع حقوق الفلسطينيين والتخلي عن المقاومة المسلحة. شعر وصفي بالغضب الشديد، وعلم أن هذا الاجتماع سيحدد مسار القضية الفلسطينية لعقود قادمة. قرر أن يسافر بنفسه إلى المؤتمر ليفضح تلك المخططات.
وصل إلى المؤتمر الدولي الذي عُقد في إحدى العواصم العربية الكبرى. كان الجو مشحونًا بالتوتر، ووصفي يعلم أن الأعين تتوجه إليه. ألقى خطابه الناري الذي هزّ أركان القاعة، ودافع بشدة عن حقوق الدول المحتلة، متهمًا كل من يتآمر على القضية الفلسطينية بالخيانة. كلماته كانت كالسهام التي أصابت العديد من القادة المشاركين. لكن بينما كان الجمهور يصفق له بحرارة، كانت هناك أعين تراقبه بخبث.
ما لم يكن يعلمه وصفي أن هناك خطة مُحكمة قد وُضعت لاغتياله. تم الاتفاق على تنفيذ سيناريو احترافي، بحيث يظهر وكأن اغتياله كان بفعل قوى خارجية، أو نتيجة لخلاف سياسي عابر. كانت تلك القوى تُدرك أن التخلص من وصفي لن يكون سهلًا، لأن شعبه والعالم العربي سيقف ضد أي محاولة لاغتياله علنًا. لذا، قرروا أن يكون العمل من خلف الستار.
يوم الاغتيال:
في 28 نوفمبر 1971، بينما كان وصفي التل يتوجه لحضور اجتماع آخر في مقر جامعة الدول العربية في القاهرة، كان الجناة يستعدون لتنفيذ جريمتهم. تجمعت مجموعة من القتلة المحترفين، الذين تم تدريبهم على أعلى مستوى، حول المكان، ينتظرون اللحظة المناسبة للانقضاض. كان الهدف أن يتم اغتياله بسرعة ودون أن يُكشف الأمر بسهولة.
عندما خرج وصفي من الاجتماع متجهًا إلى سيارته، كان الجو هادئًا بشكل غير طبيعي. وفجأة، انطلق الرصاص من جميع الجهات. أصيب وصفي بعدة طلقات قاتلة، وسقط على الأرض. لحظتها، لم يكن جسده فقط هو الذي سقط، بل سقط معه جزء من كرامة الأمة العربية، التي كانت ترى فيه رمزًا للحرية.
الصدمة والخذلان:
انتشر خبر اغتيال وصفي التل كالنار في الهشيم. في كل ركن من أركان الوطن العربي، كان الناس ينعونه بألم. الجميع شعر أن الأمة خسرت قائدًا لن يتكرر. لقد كان وصفي هو الصوت الذي لا يخشى قول الحق، حتى في وجه أقرب الحلفاء.
ورغم أن التحقيقات الرسمية أغلقت القضية على أنها عملية اغتيال نفذتها مجموعة متطرفة، إلا أن الحقيقة كانت أعمق من ذلك بكثير. وراء الكواليس، كانت بعض الأنظمة العربية التي تفتقر إلى العروبة الحقيقية هي التي دفعت ثمن الخيانة، وهي التي ساهمت في التخطيط لهذا السيناريو القذر.
إرثه:
رحل وصفي التل، لكن صوته لم ينطفئ. لقد ترك وراءه إرثًا من النضال، وصورة لرئيس وزراء لم يكن يخشى قول الحق، مهما كان الثمن. سيبقى وصفي في الذاكرة العربية بطلًا مغدورًا، ضحّى بحياته من أجل الدفاع عن الأمة العربية وقضاياها العادلة.
لقد علّم وصفي الأجيال أن الدفاع عن الحقوق والكرامة ليس مهمة سهلة، وأنه في عالم المصالح والخيانة، قد يُغتال الصوت النقي، لكن الحقيقة لا تموت. ستبقى كلماته تتردد في الأفق: "الحق لا يُباع، والكرامة لا تُساوم".