لازلت أذكر تلك اللحظة كما لو كانت البارحة، عندما احتضنت طفلي للمرة الأولى، بعد أعوامٍ من الانتظار والدعاء..
شممت رائحته المحببة لي وقبّلته بكل حب، شعور جديد نحوه بدأ ينضخ بأوردتي ويجتاح جسدي بعد أن غادره..
سمَّيناه هشام، ملاكاً على هيئة بشر..
كبر كأيِّ طفلٍ ، كان جميلاً .. ذكياً ومحبوباً، لكنني مع الوقت بدأت ألاحظ أن لديه مشكلة اجتماعية ، فهو منعزل ولا يقترب من أحد ولا حتى يحاول اللعب مع باقي الأطفال كأطفال عمره، ومايزال لا يتكلم سوى بعض الكلمات بالرغم من أن عمره تجاوز العامين.
لقد كان هشام طفلاً متوحداً ، هذا ما أخبرني به الطبيب عندما عرضته عليه "لديه اضطراب توحد".
بالبداية لم أستوعب فكرة هذه المشكلة، ولكن يوماً بعد يوم بدأت أتحسس مرارة فقدان طفلي وهو أمام ناظرَي..
أتحدث معه فيعيد ما قلته له دون وعي، وكأنني أسمع صدى صوتي فحسب..
يريد شيئاً ما فيملأ البيت صراخاً وغضباً، وعندما أعجز عن فهم ما يريد أصرخ باكيةً أنا الأخرى..
فرط حركته وتصرفاته وصراخه بالبيت لا يُحتَمل، وكل هذا يسبب لي الإحراج خارج البيت، سواء كنا في زيارة لبيت قريب أو بأيِّ مكانٍ آخر ..
أصبحت مثله أفضّل العزلة والبقاء بالبيت، وأنسحب تدريجياً عن الحياة خارجه..
أجلس على ذات الكرسي الذي حملت عليه هشام لأول مرة وأنا أسترجع سعادتي تلك بألمٍ فظيع، كم كرهت هذه السعادة وتمنيت لو أنها لم تكُن ...
غريب كيف تُبدِّل الظروفُ المشاعرَ، حتى أصدقَها !!..
وسرعان ما تحول الإحباط والألم إلى غضب..
وذات يوم انزعجت منه وانفجرت باكيةً ...
صرخت بوجهه: لقد دمّرت حياتي!..
واتّجهتُ للجلوس في إحدى الزوايا، وبكيتُ بحرقة، أخرجتُ كلّ عذابات الشهور السّابقة دفعةً واحدةً.
هشام كان المطر بعد أعوامٍ من القحط.. كيف له أن يكون عذاباً؟؟!
رفعتُ رأسي بعد ساعة كاملة من البكاء، لأجد هشام جالسًا أمامي، ملامحه لا تزال جامدة، ولكن جلوسه بقربي يعبّر عن التأثّر، وفي عينيه يُظهر شيئًا من الأسى، وكم فاجأني حينما رفع يديه الصغيرتين ومسح دموعي، عندها انطفأ غضبي وانتابني الخجل والعار من كلّ ما قلته...
همست: “لماذا ألومك؟!
ما كانَ ذنبك؟!
أنتَ لستَ سوى نفسك! “
هدأتُ ثم احتضنته، وبكيتُ بحرقة وأنا أتوسلُ إليه أنْ يسامحني، وكيف لا يفعل، وهو من أنقى مخلوقات الله على الأرض..
بتلك اللحظة وقفت على قدَميَّ وعاهدت نفسي ألا أسقط مجدداً...
قد يخيل لمن يقرأ قصتي أنني أنا البطلة، ولكن بطل القصة هو هشام، الذي علمني الصبر والرضا وتحمل الصعاب، والاستمرار بالعطاء والنجاح، ولم يكن نضالي إلا لأجل قلبه البريء ..