مبروك للفائزين!الجامعات
شكرًا على مشاركتكم. أنتم أبطالنا!
الأردن|الجامعات
دَرويشيّات في الماضي
محمد نعيم ابو طير
تأليف محمد نعيم ابو طير
دَرويشيّات في الماضي

في الجنة،سأراه في الثلاثين بلا تجاعيد،بلا هم أو تعب…سنشرب الكوثر بلا ظمأ أو جوع وسنعيد بناء ذكريات الطفولة التي كانت بدونه،سيُأذن من جديد وسأفكر بقية اليوم عن لماذا يقوم بتحريك سبابته هكذا وبسرعة،سأغفو على وسادته قبل أن يبتدئ الحكاية وأصحو على يدٍ تمسح خدي،سيعلمني كيف أمسك القلم وألّا ألون خارج الخط،سيتكلم عوضًا عني أمام الطبيب ويشرح له مرضي كما لو أنه مصاب به،لن ينساني عندما أتوه بين الوديان ولن يوبخني على ذلك،لن ننام رغم أنّ الليل قد حلْ ولن نُسرف في الحديث رغم أنّ عيوننا مملوءة،لن يُفلت يدي كيلا نفترق مجددًا،لا دموع بلا جدوى هناك،ولا طعم للفردوس بدونه.
إلى من استعاره الزمن،وجُمع لِمامًا من كل مكان على بساط طويلٍ،وراقت له فكرة السفر إلى البعيد بين النجوم،وترك وسادته واشترى لحافًا منهوشًا،ورمى السهر في الجفون واغتال الصوت المبحوح،وغفا مخنوقًا على حصيرة الأيام،وضاع في الفضاء،ودفن بين سلال الغسيل،واختفى القمر برماد سترته،وجاعت جثث الأرض برائحة خبزته،وكُسرَت الأشياء بحثًا عن طريقه المجهول،وعاش في الأحلام وساد السكوت في الحاضر الممنوع،ونكر هجرانه للفتات المحروق وأشعل كبريتًا في الفراغ،وتحدثتْ تِرْكَتُه المنبوشة وتناثرت الألعاب،وخُطفَت سيرته في الصدف القديمة بين فناجين القهوة وأباريق الذكرى،وهُزمَت الورود على باب وطنه،ونامت أوراقه تحت ركام الموتى وفوق الأحياء.
بعد الحداد،سقطتُ أرضًا وأُصيبَ رأسي،أسدلتُ ستائر عيني ورجوت من كل قلبي أنَه ليس الأجل المحتوم،ليس اليوم وَلا هنا،ولكن بجواره والآن،فاسترجعتُ شريط الطفولة ونسيتُ أيام المراهقة…وها أنا،ألهو بين قنوات التلفاز وأغنّي مع كلثوميّاتنا المخفية،حتى بِتُ رماديًا ما بين الأبيض والأسود،وتذكرت جيدًا ما قد حدث قبل الموت!
عند بوابة المستشفى،كنت مشتطًا من الحماس حتى ألتقي بك،مرتديًا ما تبقى من سبايا جسدي وكابتًا لدموعٍ طال عليها الرجاء إذ كان الانتظار طويلًا كلما كنت أسهو بإضاعة الوقت في تلك الزيارة المدفونة على هوى القليل من الدموع والكثير من القُبل،لينتهي بي المطاف منتظرًا في ردهة الاستقبال،حتى أدندن ساعةً من الصفير المتهدج أسبوعًا تلو الآخر.
وحينما بلغني أنّ ملعبًا في الطابق الأخير محشوًا بالكرات الملونة لأطفال السرطان،كنت أفيض في كل درجة أمضيها لأتقدم في كسر شبّاك لا يقرب لشباك ميعادنا بِصلة لنلعب سويّا:نحن وطفولتي.
لن أنسَ أبدًا عندما كانوا يُصعدوني من الباب المخفي عن الجميع حتّى أحظى بخمسة دقائق مني إليك وفقط:أخطو بجانب الحائط تمامًا حتى لا أكون منظرًا للشبهات كما كنت في الأسفل وأنسق ملابسًا لا تعني للسواد بشيئ،ألقي السلام،أبتسم وكل ما بي يفيض،أقبّل الوجنتين وينهي فؤادي الميعاد بخدشه لعيني عند تقبيل يديك.
مع ذلك،لم يكن هذا كافيا بالنسبة لي فقد اغتربنا عن بعضنا سنينًا عجاف والغربة غربلتنا في وعودنا المرهونة وأحلامنا المذبوحة،أتمنى لو كان بحوزتي الجرأة التي بإمكاني الوقوف بها في وجه هذا الشرطي الذي لطالما بات يبعثر أوامره بمرارة.
للحظة أدركت بأن نشيدنا لن يكتمل وقد تهدج بصوتي المخدوش،وناداني هو من بعيد ومتُ أنا،لكنك لا زلت عالقًا بي،بينما كنت أتوسل إليه كي أبقى بجانبك خمسة دقائق أخرى كانت علامات الرفض تشيء بإنتهاء الموقف ولكني لم أتخلَ عنك يومًا،حينها لم يكن الطقس باردًا ولكن البرد قد أثلج جسدي والنار لا زالت تحوم في خاطري.
لم أنسَ أبدًا عندما غفي كل من كان مراقبًا على ذلك الباب وتسللت إليه ونزعت كل محاولات الاستسلام من قلبي لعسى أنْ يُفتح ولم،وحينما فرغتُ حتمًا كنت أخشى من أن يلتقطني أحدهم ويوبخني على فعلتي القبيحة؛لأمضي طابقًا فالآخر هاربًا من المخرج الخلفي للمستشفى خوفًا من أن أُنَبَّشْ ويجدوا أنّ الزيارة لا زالت تكتمل في عيناي فقط؛لأقترع باب الانتظار من جديد ولأبقى عالقًا كما كنتُ هناك،كما أنا.
بينما لا زلت في فجر كل سبت أتمنى حتى أبتر جزءًا من قلبي في مطر الأيام،والأحد لا زال مقبرة الأحلام،والاثنين بعد الظهيرة هو الدم المهدور،والثلاثاء الفكرة القاتلة،ومغرب الأربعاء حين حيّا على الصلاة كان الوداع المغدور،والخميس صحوًا هو الغدّار وأنا المنحور.
ما أسوء الجمعة!لنكون معا على انفراد لآخر مرة رغم أنّنا محاطون ولا أحد يعلم خفايانا المتبعثرة في رحلاتنا،ولا حتى نحن.
في الصباح الباكر،نُكِّستْ أعلام بلدتنا ورُفِعتْ رايات بالدماء تسيل،لم يكن البئر عميقًا أو أنّ الذئب أكل القميص،فقد أُعلن الموت وفُتح بيت الأجر،وتجمدتُ لحظة الدفن،ربما كأنه شخصًا آخر قد عاش بي وبت أحتضر،فلماذا لم يكبر ذاك الطفل وحُكِم عليه بالسجن تحت أسوار الزمن ؟
في مساء اليوم الثالث من العزاء المشؤوم،وقفت على باب الغرفة وقدموني كوني يتيمك الاصغر،عمّ الذهول حول صحون العشاء الأخير وسألني أحدهم عن مسألة في ضرب الأرقام لإنني جيد بها،طأطأت رأسي وخفت من شيء قد بدأ يتوغل في كلتا عينيَّ،ربما غبار النسيان لم يسامح جوف صدري بالتخلي عنك،وإنني أدق بالشوكة عاليًا حد الموت أريد المزيد منك في طبقي الفارغ،إذ غفا المذيع وكُسِرَ المذياع،ونُقِلت الجثامين وتطايرت الأرواح،وكبّلْنا ألبوم صورنا وكُشط السحاب،ولم ترجع.
في الرحيل،بات النور يتلاشى لنستوقف شيئًا في طريقنا إلى المجهول،والأكل كان كافيًا لخمسة أشخاص وستة ملاعق،حينها قد أخفيت ملعقتك سريعًا في جيبي من غير أن يلحظ أحدهم حتى نأكل سويًّا عندما تعود،وقد بسملنا بمفردنا لأول مرة ولم نسمع صوتًا للعصافير.
كان دائمًا حق العودة إلى ديارنا هو بيتنا الذي يسعى كلانا إليه بلهفة،هو هروبنا من الواقع المعزول ورجوعنا إلى خطايا الضمير المفقود،كأن أُحْصِيَ عدد الأسماء التي تلوتَها على باب وطننا الشهيد،أو أن ألحظ عدد الوجوه التي نسيتَها ولم ترسمها على شباكنا المهجور،وأن نَبني سقفًا فوق جروحنا المطوية وعِلّاتنا المرثيّة.
بينما كانت أرضيتنا تُفرَشُ حقّا بقصاصات غيابك لأول مرة لم أعِ حينها سبب اختباء القمر خلف الغيوم،وأن النور يأتي من الخيال وأن النجوم لا تعني الحياة بل النجاة منها،وأن الليل والنهار متزامنان رغم كل تلك المسافات المقطوعة بيننا،فقد كنتُ أبحث عنك في كل مكان لا يزال فيه عطرك ينوح في أرجاء المنزل،في القبو وفوق السرير،فقد كانت كل زوايا البيت تُدفئ لك مكان يحويك حتى تختبئ،خلف الستائر وبين ألعابنا المصلوبة.
كنت ما أريدُك أولًا وأبدًا كما أنت:ببصمتي على وجنتيك،بطموحاتنا المسلوبة،باشتياقي لك واجتياحك لي،بأسراري بين عينيك و بنحيبي في حز رقبتك.
كنت ما أحتاجك دائمًا وأخيرًا كما أدمنتُني عليك رغم أنك من تخلّيت عني،أنْ لا أنام إلى نفسي بدونك رغم أنك أغفيتني،لا أريد أن لا أحبك رغم وعودنا المسجونة،لا أريد أن أكون لوحدي هنا رغم أنك محجوزٌ هناك بين أشلائي تلك.
في ساعة من الصباح عندما تولد الشمس من جديد،لا أعلم ما الذي يجعلني أذكرك دائمًا،أشتاق إليك كالعادة ولا أكتبك ثانية.بينما لا تزال الميت الذي لم يمت كان الشعور بالاغتيال يخنقني وفي داخلي وصف لا أستطيع ربطه بحبال الغسيل المرخية،إذ بات الشد هو الخيط الأضعف وصلًا لذكريات أحضاننا في القطار،والكسر قد ملأ حشرجة صوتي والعبارات،والفتح على انتصارات مملكتنا مات،وكان السكون سيد موقف الرفات.
أعتقد أنك كنتَ محقّا حينما أخبرتني بأنّ الموت لا علاقة له بالرحيل وأنَ الوجود لا صلة له بالبقاء،وأنّ الحياة لا تقف على ميت،والحنين إليهم لا يجدي بعض النفع بل كلّه،وأنّ الأحضان ستصير جُرمًا في حضرة الذهاب والإياب،وأنْ لا أستغرب من فكرة بيع البيت المهدوم،وأنه في الجنة سيموت الموت ولن تموت يا وطني.
أعتقد أنّني كنت مخطئًا حينما أخبرتك بأنَ الأموات لن يستمر أثرهم في الحياة،وشحوب الأسود لا يزيد عن ثلاثة أيام،والآمين بعد كل دعاء ليست بربطة عنق بل ربطة على عنق،وأنّ الكتمان ليس سوى الشتات بيننا.
الحمدلله أنّني لم أشاهد شيئًا من احتضاره الصامت،ووصاياه العشر في ذاكرتنا المنسية،والطائرة ذات الجناح المكسور في سماء عاصمتنا وفقاعات الصابون المخفية.
الحمدلله أنّني لم أشعر يومًا ما إذا كان جائعًا أو موجوعًا ريثما لجأتُ إليه مِرارًا،ولم أرَ حقنة تَخِزَهُ لمرة واحدة،بينما لا زال الفرح يعلو وجهي،كان قد انتشل جسده من السرير عاجزًا عن السير حتى يضمني نحو صدره بدون وداع قبل أن يرتقي بسلام إلى السماء،فلماذا لم أكتفي وأريد المزيد منه في فؤادي ؟لماذا لا يزال عالقًا بي،رغم أنّنا لم نلتقي بصورة واحدة حتى لو كانت صدفة ؟
"إلى المهندس الصغير"،تلك العبارة المنقوشة بخط يدك على قصاصة من ورق فوق لعبة البالونات الصابونية،بينما لم تسعني فرحة الشتاء بوصول رسائلك إلى جمر قلبي وباقي العبارات التي لم أذكر فيها إلّا سوى التقدم والاستمرار،فلا زالت تطاردني الأحلام ولم يكن عندئذ الفتور موجودًا،أو لم يغافلني على وجه التحديد.
فلا زال طيفك يلاحقني في كل مرة أضيع فيها بين الجبال،يرشدني صدى صوتك حتى أجد الإلهام،تزورني الذكرى عندما يُهَدّ صوتي المُرهق،والأمل لا زال محفوظا بداخلي حتى أتفقد الصخر فوق رسالتي،وبين حكايتنا.
ربما لا زال يعتادني الاعتذار على بُعدنا وفي جفائنا ومحيانا بأقنعة الزمان،ربما كان الاعتذار قد وجب عليك عندما غادرت اللعبة ورحلت،حينما بعثرت الطريق المسدود وتركت المحضون ينوح بغيبتك،ربما كان علينا أن نموت بردًا وحرًا مع بعضنا،كي لا نتبخر من قصتنا.أن لا نترك أثرًا منّا في تلك الرواية،في ذلك المكان،وفي هذا الموت.
والانتظار يتجدد في كل مرة أصبغ فيها أطراف اللهفة الموؤدة،أُقلِّمُ تقصفات الماضي وألبس هندامًا يليق بيومٍ جديد،هذا اليوم المكرر الذي يعني أنّني سأرتدي وجهًا آخر لكي أوحي بأنّ جفنيَّ ليستا بؤساء وأنّ قلبي ليس بميت.
والخطيئة تلاحقني في كل مرة ينام حُزني،وينشغل البال عن ذكريات تُسمنُ ولا تُغني،والمنية تقترب من حنجرتي كل يوم،والأسوَد يُلبسْ فيما يُخفى السَواد،والأحلام لا زالت تعوم في المجاز،والهجر أقرب من الفجر،
وغدًا سيعيد ذات اليوم،والخيال لا يُكتب ولا يُمحى،وذكريات لا تُذكر ولا تُنسى،وجرح لا يُخاط ولا يُكوى،وشوك يزهر تحت قدمي وخنجر يدق سقف حلقي،وغبار يخلو من الهواء والملائكة تنزف أجنحة بلا شفاء،ولغو يطير في الفراغ برفقة السماء،وأنا بتُّ كما كنت في الأمس،فما استطاعت يدي أن تكبح ماء عيني من حُرقة النزوح،فكل ما أريده هو أن أستبدل ثيابي الجديدة بالمتسخة تلك،لا يهم عدد الوجوه التي تراني على قدر ما أراك،أيَا ليت الوقت يعود في أجسادنا وليس في ذاكرتنا!
وقتما أصلي،تذوب الآيات في حنجرتي وتسافر مع الحنين،والأدعية تسقط من رأسي وتتثاقل حين تصل لساني وقت السجود،فأفيض بنفسي ملقيا سلامًا على يمين وعلى يسار،منتظرًا صلاة آخرى،كي أدعي مجددًا،وحتى يتجمد فمي من جديد.
أعدك أنني سألتقي بك في الحياة الأخرى،في الأرض أو حتى في السماء،وأننا سنتواعد مجددًا ولن أخيب آمالك المرجوة في الماضي.أعدك أن أبقى إلى جانبك في سنينك القاحلة،في أيامك التي لا تمطر،وفي شهرزادك التي لم تنبت.أعدك أنك ستبقى البيت الذي لا يميل،الوطن الذي لم يَخِبْ،والحب الذي لن يموت.
بين الشمس والقمر،دائمًا ما أُخبِّئك بيننا لأراك هنا رغم أنف القبيلة والحي والحارة،ستبقى دائمًا بائع الملامح الذي لم أستطِع وصفه في المكان الذي لن أجده.
كل هذه الآلام التي لم أتمكن من وصفها عالقة بي،وستظل أنت المكان الذي لن أدلّ طريقه أبدًا،وسنبقى دائمًا عالقين هناك بينما يمضي العالم،فإنّني لا زلت هذا الضائع لألملمني منك إذ أنّ هذا المكان لا يحويني ما دمت لست معي،والأنين بات الليل كله والصور المعلقة على أطراف الأشياء حتى نفتقدك ولا ننساك،وأدركتُ بعدها بأنَّ الله يأخذ الأشياء التي لا يريدها أن تتسخ.
بينما تنام الشمس،تستيقظ أنت في مخيلتي باحثًا عنك خلف قضبان تلك الأبواب ولا أحد يُجيب هناك،منتظرًا -العهد الذي بيننا-بأن لا يزال نفح قبلتك القاتل يجوب في أرجاء قلبي المقتول،ويدك المجروحة تمسح على شعري المبلول،وأن تبقى قصتك الخاطفة ذات المشهد المحبوك تصدح على باب أذني رغم أنّ صوتك خافت في عتمة الليل المخذول؛لأحمل خيبة ظني من جديد بينما لا تزال ملعقتك كما هي في جيب معطفي،كما كانت.

لروحك السلام.