لجنة التحكيمالجامعات
لجنة التحكيم تقيّم الأعمال
89 أعمال
الأردن|الجامعات
كَبُرتْ والأحلامُ تنتظر
Aya Alrefai
تأليف Aya Alrefai
كَبُرتْ والأحلامُ تنتظر

لوْ عرضتْ عليها الاختياراتُ لاختارتْ حتما أياما يضحكُ بها قلبها ، أياما لا تنفطرُ بها روحها شوقا لرؤيةِ طفلها البعيدِ ولا تقدرُ ، لاختارتْ أيضًا أنْ تُكملَ اللعبَ باسمها المجردِ معَ قريناتها اللواتي تحبُ قربَ أسوارِ المنزلِ ، لما أحبتْ أبدًا أنْ يصبحَ اسمها بينَ ليلةِ وضحاها زوجةَ " فلانٍ " ، لربما كانتْ سترقصُ فرحًا حينَ يعقدُ قلبها بقلبِ شابٍ يعشقها كما تفعلُ ، أوْ لباتَ بيتُ الزوجيةِ سماءً رحبَ يحوي أحلامها والشغفُ ، ليسَ بقفصٍ يصّفدُ عنانَ الأحلامِ ويقصُ جناحا الأملَ والمسرةَ ، لاختارتْ أنَ تمضي تعانقُ كتاب يصحبُ قلمًا ، ترى فيهِ ما يملأُ الفؤادُ منْ شغفٍ وحبٍ ، لما أصبحتْ السعادةُ بالنسبةِ لها مجردٌ كلمةَ يحويها قاموسٌ ما ، أوْ فكرةٍ غيرِ قابلةٍ للتطبيقِ في عالمها التعيس ، لربما طموح باتَ ينمو علا وازدهرَ فتراهُ واقعا تلمسَ أثرهُ بقلبها قبلَ كفيها.

ذاتَ يومٍ استأذنتْ منْ طفولتها كيْ تذهبَ وتتكللُ بالأبيضِ بجسدِ طفلةٍ ذاتِ خمسةُ عشرَ عاما ، معَ طرحةٍ وُضِعتْ خلفَ رأسها ولمْ تسمحْ لها قساوةُ الأيامِ أنْ تقولَ ببساطةِ أنَ الطرحةَ كانتْ ثقيلةً جدًا على رأسها الصغيرِ ، وأنَّ حملاً كهذا لربما تقدرهُ أيُ أنثى عداها ، أنثى خُيّرَتْ ولمْ يسيرها واقعٌ يحكمُ الرغبةَ والحريةَ ، لتسمعَ بعدها دويُ تصفيقٍ وتنهالُ عليها التهنئاتُ أينما التفتتْ بأنَ منْ سيزفها قدْ حازَ منْ دنياهُ خير مفاز ، وأنّ زوجةً كهذهِ ستعمرُ بيتهُ وتزينهُ بذريةٍ منْ أحشائِها يباهي بهمْ نفسهُ وَ العالم ، حازتْ صفاتُها منْ اسمها نصيبًا فلمَ تسمحُ لها براءتها أنْ تُدركَ ماذا يعني أنْ تكونَ زوجةً ، أُمًا ، أو حتى امرأةً؟


عانقتِ الأبيضَ يومًا يتيمًا ليعانقَ السوادُ بعدَ ذلكَ جلّ حياتها ، لطالما تمنتْ كلَ ما دونَ واقعها هذا ، باتَ الصبحُ بعيدًا بأميالِ عنها ، وإنَ أشرقتْ شمسُ حولها لكانتْ أولِ منْ يحجبُ عنْ بصيصِ نورها ، هيَ وأحلامها في ظلامٍ دامسٍ وإنْ تعددتْ حولها الإناراتُ ، ومصباح القلبِ مكسورٍ يرجو منْ يضيئهُ ، ليصبحَ كلُ نور حولها كذبةٌ سيطفئُها الألمُ يومًا .ما

مرتِ الأيامُ وراحتْ مرارتها راسخةً كصخرٍ ، كَبُرَ رَحْمها الصغيرِ فجأةِ فسمعتْ على غفلةٍ صوتًا لطبيبةٍ تقولُ : في أحشاءكِ دُرَّة ستكونينَ أمًا عظيمةً ، ثمَ عادتْ روحها تنبضُ بالحياةِ حين بُشِّرَتْ أنّ فارسًا صغيرًا يربطهُ بها حبلٌ سريٌ ستحملهُ ذراعاها قريبًا، لكنْ سرعانَ ما تلاشتْ سعادتها البريئةُ تلكَ حينَ نظرتْ فرأتْ جسدَها النَّحيل يحوي آثارَ ضربٍ خلّفتهُ حياةٌ زوجية ممنْ أطلقوا عليهِ اسمَ فارس الأحلامَ ، وربما لمْ تؤلمها تلكَ الصفعاتِ بقدرِ ما فطر قلبها أنّ منْ يهدمُ قواها هوَ منْ خُلقتْ منْ أحدِ أضلعهِ ، منْ يكسرُ عضلاتِ الفؤادِ هوَ ذاكَ الذي أخبروها قائلينَ أنهُ بيتكِ الدافئُ ، وأنَ منْ يوجهُ لها الإهانةَ تلوَ الإهانةِ يُدعى أيضًا أبًا لأطفالها .


سنينَ خلتْ وهيَ تنظرُ فتقول اصبري وصابري، ثمَ إنَ تألمتْ وراحتْ جريحةٌ قالتْ لا بدَ منْ نهايةِ فالكهف سيشفقُ عليّ بنورٍ في آخرهِ ، وضعتْ طفليها بعد عناءِ حملٍ لا يخلو منْ شتمَ ، إهاناتٌ وضربٌ لمْ تشهدهُ يومًا حتى البهائمِ ، كانتْ تعيشُ فترةَ نفاسها داخلَ حربٍ لا تجيدُ فيها حملَ السلاحِ ، لتكونَ بذلكَ الأعزلِ الوحيدِ بينَ جنودٍ قدْ سُلّحتْ بالقسوةِ وانعدامِ الرحمةِ وغيابِ الإنسانيةِ . شحبتْ العيونُ ، وتبدلتِ التقاطيعُ ، ثمَ خَطّتْ السنون على وجهها ندوبًا تشهدُ ما رأتْ وعاينتْ ، لكن القِوى قدْ شاختْ حينِ بكتْ بجانبِ ابنها ذو السنتينِ ، حينُ لمْ تستطعْ أنَ تعانقهُ وتشتمُ رائحتهُ كأيُ أمْ ، لتدرك بعدها أنَ فلذةَ كبدها مُصابٌ بمرضِ التوحدِ .

بلغتِ الستَ وعشرينَ خريفًا ، لمْ ترَ خلالهما أيَّ ربيع يزهرُ أملها ، أوْ تتفتحُ فيهِ ألوانُ البهجةِ والفرحِ ، هانتِ القوى كما هانٍ على الجميعِ ممنْ حولها نَفَسها وحقها بالعيشِ والاحتواءِ كأيَ إنسان فُطِر على هذا ، كبرتْ على عجلةٍ قبلَ أنْ تلوحَ براحةِ يدها الصغيرةِ لكلِ الفتياتِ اللواتي اعتادتْ أنْ تمارسَ معهنَ طفولتها ، كبرتْ ذاتَ عصريةٍ في إحدى أيامِ نيسانَ ، قبلُ أنْ تبكيَ بحرقةٍ لأنَ مجرد شوكةٍ لامستْ إبهامها الصغيرَ ، قبلُ أنْ تخزّنَ ذاكرتُها صورًا كثيرةً لماضيها الجميلِ ، تحاربَ بهنَ عتمةَ حاضرٍ تملأُ الأركان، كبُرتْ قبلَ كلِ الأحلامِ ، في ذاكَ البيتِ الذي دخلتهُ عروسًا فرحةً بفستانٍ مزركش فخرجتْ منهُ فارّة منْ شبحٍ يخنقها ، يضيقَ بسواعدَ يديهِ حنجرةً لا تنفكُ تؤمنُ بحقها بالحياةِ ، وما تخلتْ حينَ تخلى كلُ شيءٍ آخرَ تقريبا .
بينَ هذا وذاكَ كانتْ أيامُ العمرِ تركضُ ، وأبوابُ السبعِ والعشرينَ تعلنُ اقترابَ جيوشها ، وكأن جيوشَ ذلك العمرِ جاءتْ لنصرتها ، و كأنّ تلكَ الجيوشِ قدْ سمعتْ مناجاةُ أسيرٍ قيدتهُ سنون الظلمَ والحرقةَ ، فما أنْ استقبلتْ تلكَ الحشودِ وعانقتْ خريفها السابعَ والعشرينَ استرقتْ منْ إحدى جُنودهِ سلاح مظلومٍ ، سلاحُ يُدعى متى سأقولُ يكفي يكفي ؟ سلاحُ تقطعِ بهِ رأسُ كلِ ما يحبسُ شهيقها والزفيرُ ، ترسمَ منْ خلالهِ حدًّا تخطتهُ هيَ وحرمتهُ على كلِ قيدٍ يلاحقها ، لتطيرَ بهذا نحوَ المستقبل، كبرتْ هيَ لكنَ أحلامها الصغيرةَ لا تزالُ تنتظرُ تلكَ الطفلةِ أنْ تعودَ ، ابتاعتْ قلمًا ثمَ صافحتْ أبجديةً ، خطتْ حروفا افتقدتها منذُ أعوامٍ بعيدةٍ ، جهلتها الوريقاتِ ولمْ تعرفْها صفحاتُ كتبٍ قدْ جمعتهنَ صداقةٌ وطيدةٌ ذاتُ طفولةٍ ، فالملامحُ قدْ تغيرتْ والصغيرةَ قدْ كبرتْ ، أما العمرُ فلمْ ينتظرْ .

بإصرارِ ثائر وعزيمةِ أنثى ، حصلتْ على شهادةِ أكاديميةٍ مهدتْ لها بساطًا طارَ بها نحوَ الحريةِ ، لتترك وراءها أيَّ أغلالٍ قدْ تخدشُ يدَ أحلامها ، انتقلتْ بعدها لبلدٍ آخر ، حيثُ الأمانُ يوجدُ ، فالعمرُ لا يتسعُ لمزيدٍ منْ الخوفِ ، التحقتْ بإحدى جامعاتِ البلدِ ، ولمْ تكنْ عزيمتها أضعف منْ أنْ تحظى برتبةِ أوائل كليتها ، اسمها يُعرفُ وممنْ حولها فضلوا حسدها على غِبْطتها ، شارفتْ على الثلاثينَ لكنّ القلبَ لا يزالُ أخضرًا لمْ يبسْ ، ينبضَ برغبةِ بالحياةِ ، تسيرَ معَ الثلاثينَ متعطشةً لكلِ ما لم تتجرعْهُ يومًا ، تحاولَ مجاراةَ ما فاتها منْ حياةٍ ، حينُ كانتْ تموتُ خلفَ قضبانٍ وطيدةٍ ، لتدرك أنها قدْ كبرتْ قبلَ كلِ شيءٍ وقدْ صغرَ كلُ شيءٍ بعينها حين كبرتْ ، ولا تزالُ تسألُ نفسها : أَ خوفي أقوى أمْ أنني أنا منْ كنتَ أقوى منْ كلِ شيء؟