لجنة التحكيمالجامعات
لجنة التحكيم تقيّم الأعمال
89 أعمال
الأردن|الجامعات
ظلال الصمت
سبأ الخضير
تأليف سبأ الخضير
ظلال الصمت

كأن الزَمَان نَفسهُ قَد اِنقَلبَ عَلَيَّ، وشيَّدَ حَولي سِجنٌ مِن الأَوهامِ.
تَساقَطَت الأَيّامُ مِثلَ شَظايا زُجاجٍ مُحَطَّمٍ، تَترُكُ فِي داخِلِي جراحًا غائرةً لَن تَلتَئِمَ.
فِي تِلكَ اللحظاتِ، عِندَما اِنقَلَبَت المَشاعِرُ إِلى مُسَوخ نامِيةٍ رَأَيتُ الحَقِيقَةَ العارِيَةَ بِأَنَّ الخَوفَ لَيسَ عَدُوًّا، بَل هُوَ سيّدٌ جائِرٌ، تَحكَّم بِخيُوطِ وُجُودِي، وَحاكَ مِنها عَباءة فَزَعٍ، لِيُصبِحَ الهُرُوبُ مُعجِزَةً وَالفرارَ مُستَحِيلاً.

أرتمي فِي زَوايا الغُرَفِ أَدُورُ وَأُحَدِّقُ بِنَظَرِي…
أنْصِتُ دُونَ أَن أَتحدَّثَ خَوفًا مِن أَن أُنْهَرَ وأصبِحَ مَوضُوعًا للسُخرِيَةِ!
اِمتَنعتُ عَن تَصدِيقَ فِكرَةِ التَعامُلِ والتَفاعُلِ معَ الغَيرِ دُونَ أَن أَلقَى المَهانَةَ، وَأَُمرَّغ فِي تُرابِ اِستِخفافِهِم كَمُقابِلٍ.
خَشِيتُ الهَمزَ وَاللَمزَ، التَهكُّمُ وَالاِستِهْزاءَ، وَأَكثَرُ ما أَرهَبَنِي، أَن يُعرَضَ ضَعفِي، فَتُرى مَشاعِرِي عَلَى حَقِيقَتِها دُونَ سِتارٍ يُوارِيها، تِلكَ المَشاعِر الَّتِي حارَبَت لِدَفنِها دُونَ أَدنَى شَفَقةً تُذكَرُ لِحالِي.

الاِنعِزالُ آنَذاكَ كانَ خَلِيلاً يَنسجُ مِن الصَمتِ رِدائاً يَقِيني وَمَلاذاً يَأْوِينِي.
فَكانَ لِصَمتِي عاقِبةٌ وَلَم تَكُ العاقِبَةُ إِلّا لِذاتِي.

لَطالَما ذَكَّرتُ نَفسِي بِأَنَّ المَشاعِرَ ضَعفٌ، وأَنَّ الإِحساسَ بِها أَلَمٌ، لِذا صَدَدتُ نَفسِي عَنها وَأَبَيتُ التوغُّلَ فِي ثَناياها.
لكِن كُلَّما حاوَلتُ تَجاهُلَها، أَتَى ذاكَ الدَّخِيلُ النامِي يَطرُقُ أَبوابَ وحدَتِي ويُذكِّرُنِي بِحَقِيقَةِ تَواجُدِها.

بَدَأَ اِرتِيابِي فِي رُؤيايَ لِلمُسُوخِ وَحَقِيقَةِ خَلقِها يَتَفاقَمُ ويَبنِي صرحًا لا يُمكِن تَجاهُلَهُ.
حاوَلتُ تَسَلُّقه فُضُولاً... لكِن صَدعًا قَد قابَلَنِي مانعًا إياي، وَلَمَحتُ فِي جَوفِهِ مَسخًا_ بِوُجُودٍ قَد خَفِيَ عَنِّي_ كامِنًا عَلَى هَيئَةِ مَشاعِرَ مَكبُوتَةٍ وَخَوفٍ مَكلُومٍ.

ما هذا، أَما أَرَى خُدعَةً وَجَودِيَّةً أَم حَقِيقَةً؟
هَل إِن عَبَرتُ هذا الخَندَقَ سَأُقابِلُ كِياناتِ غَيرِه؟

اِبتَغَيتُ البُعدَ وعدَمَ الاِنخِراطِ فِي أَسئلَةٍ لارُوحِيَّةٍ تَخُصُّ هذا الكائِن، لكِنَّ أَنينَهُ الخافِتَ شَدَّنِي لِأقترِبَ وأذهَلَ مِن خُيُوطٍ قَد اِنسَلَّت عَن جِلدِهِ واستَقرَّت عَلَى حُدُودِ أَطرافِي بِاِستِفظاعٍ!

يَبدو أَنَّ غَياهبَ السِحرِ الغاشيةِ قد انجَلَت، لِاعتَرِضَ كيانَ النُّكرانِ بذهنٍ حاِضرٍ.

فبَعدَ أَن تَشابَكَت المَخاوِفُ كَجُذُوعِ شَجَرِ الغابِ تَمنَع النورَ مِن أَن يَطالَهُ وَيُصبِحَ مِن الإسْتِحالَةِ إِغاثَته.
أَدرَكتُ بأنِّي إِن لَم أَجِد الحَلَّ لِانتشالِهِ، فَسقُوطِي فِي هذِهِ الهُوَّة_ لِما لِي مِن صِلَةٍ واقتِرانٍ بِهِ_ حاصِلٌ بِلا شَكٍّ.

بَقِيتُ أُخاطِبُ نَفسِي وَأَرجُوها أَن تَحلَّ رِباطَ الفزَعِ الَّذِي يَسحَبُنِي فِي مَنأىً عَن الجُرفِ المَهوُولِ ومَن يَقطُنُهُ.
امتَنَعت ذاتِي وَكَأَنَّها تَحمِينِي مِن معارِكَ ضارِيَةٍ مُضنِيَةٍ مَعَ ذاكَ الكائِنِ.

فَما فَعَلتُ؟
إِلّا أَن اِتَّخَذتُ مِن القِراءَةِ مَهرَبًا ارتجِيَ مِنهُ الطرِيقَ للنَجاةِ. وبالرُّغمِ مِن سَذاجَةِ الفِكرَةِ إِلّا أَنَّنِي تَبنَّيتُها بَعدَ إِلحاحٍ مِن الفَزَعِ.
بَحَثتُ فِي مَخطُوطاتِ العالَمِ عَن سَبَبِ وُجُودِ هذا المسخِ المُضنى، ونَبَّشتُها- كَمَن يَنشُدُ ماضٍ اِندثَرَ - لِأجِدَ طَرِيقَ الحَقِّ!

اِرتَأَيتُ القِراءَةَ واِرتَجَيتُ عَونَها... فَوَجَدتُنِي أَقِفُ مَشدُوهَةً لِعَلاماتٍ وأَعراضٍ عَكَست حَقِيقَةَ نُدُوبٍ تُزيِّنُ وَجهَ مَسخِي.

نُدُوبٌ لمَشاعِرَ خالَجتَنِي يَومًا وَلَم أَعهَدها عِلَل لتُؤَرقَنِي؛ كَتجنُّبِ العَلاقاتِ وَرَفضِها، الاِنطِواءَ عَلَى الذاتِ وَتَنكيسِها، وَمِن ثَمَّ الخِزيُ وَالعارُ المُحتَلُّ لَها.

هِمت بَينَ سُطُورِ العِلمِ وَقَوّيتُ عزيمَتِي لِأَبحَثَ عَن العِلاجِ، بَعدَ أَن أَصبَحت العِلَّة أَمامِي وَطَرَفَ الخَيطِ ملكِي.

اِختَبَأتُ بَينَ الكُتُبِ وَبُنِيَت قوقَعَةٍ مِن فُولاذٍ لِتَعزِلَنِي أَكثَرَ فَأَكثَرَ.
فَتَّشتُ عَن دَواءٍ لِآلامِي وَعَن مُنقِذٍ لانتِشالِي مِن أَوهامِي.

وَبَعدَ فَترَةٍ مِن الزمانِ، صَدَحَ صُراخٌ مِن داخِلِي صَمَّ أُذُنِي.
كَجلجَلَةِ سَلاسِلَ تُحكمُ الخِناقَ عَلَى يَدِي.
كَتوسُلاتٍ تُمزِّقُ رُوحِي مِن بَدَنِي، تَضرعتنِي لِأَن أَتوقَّفَ.
جَثَت أَمامِي لِأَن أَدَعَ الراحَةَ تَسكُنُها.
فَأَفعالِي تُؤذِي _ هَلاكِي _ مَن يَعِيشُ داخِلِي وَيَتَوارَى خلفَ الصَدْعِ العَظِيمِ.
تَجعَلُهُ يَهمُّ مَفزُوعًا مُحاوِلاً الفِرارَ مِن ظِلالِ الحَقِيقَةِ المَنشُودَةِ.
يَبتَغِي الهَواءَ بَعدَ أَن ضاقَت عَلَيهِ زَوايا غُرَفٍ لَم تَعُد مَسكَنًا يُلائِمُهُ.
صَوتُ هَلاكِي تَرَدَّدَ كَأَصداءٍ لِعاصِفَةٍ مَريرةٍ، وَعَلا عَلَى هَمَساتِ العَقلِ بِسخطٍ مُحَذِّرٍ.

فَقَد زَيِّنَ طَرِيقَ الاِستِسلامِ وأمَّنَهُ، ثُمَّ وَسوَسَ لِي وَقالَ: إِيّاكِ وَأَن تَظُنِّيهِ دَلال ضَعفٍ، فَما هُوَ إِلّا مَحَطَّةٌ لِملءِ وَقُودِ الإِرادَةِ.

أَرادَنِي أَن أَخلِطَ بَينَ الهزيمَةِ وَالاِنتِصارِ، وَأَن أَدعَهُ عَلى حالِهِ لِينعَمَ فِي عَيشِ عَفَنٍ!

هَيهاتٌ لِذلِكَ.

خَوفِي مِن الاِنفِجارِ وأَذيَّة مِن حَولِي.
فَزَعِي مِن صَوتِ المَسخِ بِداخِلِي وَما يَحملُهُ مِن حُقنٍ مُخدرَةٍ تُعِيقُ رُؤيَتِي للحَقائِقِ.
جعلَنِي أُمسِكُ بالقلَمِ لأَوَّلِ مَرَّةٍ كَي أُوقِفَ طَنِينَ الأَفكارِ المَسمومَةِ الَّتِي تُخالجنِي.

صُعِقتُ عِندَما رَأَيتُ أَنامِلِي تَتَسابَقُ لِخَطِّ الأَحرُفِ وَالكلِماتِ، ظَنَنتُ أنَّ الكِتابَةَ هِيَ مخرِجِي بَعدَ فشلِي فِي القِراءَةِ الَّتِي استَنزَفت مَن يَسكُنُ رُوحِي…

ولِوَهلَةٍ قَد صَدَّقتُ هذِهِ الكِذبَة.

لَمّا اِنتهيتُ مِن كتابَةِ آلامِي وصبغِها عَلَى أَوراقٍ باليَةٍ...
لَم أَقوَ عَلَى قِراءَتِها، بَل لَم أَجرُؤ عَلَى النَظَرِ إِلَيها،
فَالنارُ الَّتِي قيدَت مِن شِدَّةِ الرَهبَةِ والضعفِ لِأَوَّلِ حَرفٍ تَرَبَّعَ فِي مُنتصَفِ الورقَةِ، أَعَمَت بصيرَتِي وَسَلبتنِي حقِّي فِي القِراءَةِ.
فسِهامُ الحقيقَةِ الَّتِي حاوَلَ هَلاكِي أَن يَتَوارى عَنها قَبلاً، أَصابَت عَصَبَ وَعيِي وتَراشَقَت دِمائِي هذهِ المَرَّةَ، لا دِماءَ الصمتِ.

كَتَبتُ حِينَها:

إنَّهُ يقتُلُنِي، ويَملؤُنِي خَواءً...
داخِلِي يتآكَلُ لَحظَةَ إِغماضِ جُفُونِي.
صُداعٌ، أَلَمٌ، وتَفكِيرٌ زائِدٌ، إِلهِي لِماذا؟
هَلاكي يُؤذِينِي ويَفتِكُ بِعَضَلاتِ خلَدِي ... أرغَبُ باِنتِشالَه لكِنَّه يُمانِعنيَ!
هَل هيَ غَلطَتِي لِأَنِّي لا أَسمَحُ لَهُ بالخُرُوجِ دُونَ أَن تُشفَى نُدُوبِه؟

آهٍ، آهٍ مِنها تِلكَ النَغَزاتُ الملازِمَةُ للغصَّةِ فِي قَلبِي…

أُفَكِّرُ لِما سَمَحتُ لَهُ بالسيطَرَةِ وتسيِيرِ مِزاجِي، يَجعَلهُ مَرَّةً مُبتَهِجًا وَمَرَّةً تَعِيسٌ. مَرَّةً مُتَفائِلاً وأُخرَى مَيؤُوسٌ مِنهُ.
تارَةً يحلِقُ بِي أَعلَى السحابِ وتارَةً يَحفِرُ قَبرِي بِذاتِ الأَداةِ الَّتِي حَلَّقَت بِي.
صغيرِي المُؤذِيَ يتَّهِمُنِي بِتهوُّرِي وعدَمِ الاِستِماعِ لَهُ!
مَن طَلَبَ اِستسلامِي وَأَنا رَفَضتُ!
كِلانا يَرَى صِحَّةَ الفِعلِ... وَإِنْ حاوَلَ ثَنْيَ قَولِي، أَلَيْسَ كَذلِكَ هَلاكِي؟
ها هُوَ يَرمُقني بِتِلكَ النَظرَةِ المَعهُودَةِ، يُشِيرُ بأَصابِعِ الاتِّهامِ نَحوِي، فَتَحدِيقاتُهُ تَقُولُ لِي:
سَتندَمِينَ عَلَى ذلِكَ.
لِمَ هلاكِيَّ أَلّا تُحبنِي كَما أُحِبُّكَ؟
أَلَن تسمَحَ لِي بِأَن أَشعُرَ بِالأَمانِ والراحَةِ وَلَو لوَهلَةٍ؟
أَرَدْتَّ البَقاءَ وَأَنا أخرجتُكَ.
اِتوَسَلكَ هَلاكِي، دَع عَنكَ الاِضطِرابَ واُتركنِي أَنعَمُ بِالأَناةِ...
فَأَنا أَنتَ، وَأَنتَ أَنا!


وهَجرتُ الكتابَةَ لِما لَها مِن تبِعاتٍ عَلَى هَلاكِي،
كَما تخَلَّيتُ عَن القِراءَةِ مِن قبلِها.

فِي إِحدَى زياراتِي لعيادَةٍ ما بَعدَ أَن ضِقتُ ذَرعًا ودونَ سابقِ انذارٍ.
وقَفتُ أطلُبُ واستَجدِي العَطفَ مِن إِحدَى مُوَظَّفاتِ المَكانِ، وقَفتُ بوَهنٍ أُحاوِل شَرحَ حالِي وَما يَعتَرِيها مِن مَرَضٍ. أخبَرتُها برَغبَتِي في لِقاءِ الطبيبِ لِيَرأَفَ بِحالِي ويُعِينَها، فَهي تَطرقُ أَبواب الجُنُونِ وتبتَسِم لاستِفزازِها.

لكِنَّها بكُلِّ بساطَةٍ رفضَتْ...
رَفَضت دُونَ عَناءِ الالتِفاتَ لِي!

ولَم تَعلَم أَنَّ رَفضَها كانَ القَشَّةَ الَّتِي ألهَبَت نارَ السَّئم لِتَهيج.

فَجأَة بَعد أَن اسوَّدَت الدُّنيا وَشَحُبَت مِن حَوليَ، اِنهَمَرَت دُموعِي وبدأْتُ البُكاءَ بِصَوتٍ مَخنُوقٍ خافِتٍ.

جَزَزتُ عَلَى أَسنانِي مِن شِدَّةِ حَنَقِي وَقَهرِي لِما أَصبَحتُ عَلَيهِ.
بُكائِي بِحَرارَة نافسَت نِيرانَ غضبِي المستَعِرَةَ فِي تِلكَ اللحظَةِ، جعلَنِي أُوصِمُ نَفسِي بِالعارِ؛ لأَنِّي أمقُتُ وأَخشَى إِظهارَ ضَعفِي وقلَّةَ حيلَتِي أَمامَ المَلَأِ.

لَم تتوَقَّف مُعاناتِي فِي ذلِكَ المَكانِ، بَل جَرَرتُها خَلفِي لتستحِلَّ ما تبقَّى مِن ذَراتِ عَقلٍ مَلَكتُها...
خَسِرتُ فُرَصًا ذهبِيَّة وانسَلَّت مِن يَدِي لمُجَرَّدِ الرَهبَةِ!
حَقِّي بِالنَومِ، الطعامِ، الرفاهِيَةِ، حَقِّي بالحُبِّ، بالاهتِمامِ، وَالرِعايَةِ... لَم أَحصُل عَلَى أَيٍّ مِنها، كُلُّها سُرِقَت مِن حَياتِي عَنوَةً.

بَعدَ مُرورِ أَشهُرٍ أَهلَكتنِي وعلَّت أُولَى خُطَى عَيشَيَ، قَرَّرتُ أن أَسمَحَ لِلنُورِ الانبثاقَ داخِلِي.
قَرَّرتُ أَن أُلَملِمَ ما تخَلَّفَ مِن رَمادِ نِيرانِيَّ وأُبعَثَ مِن بَين الحُطامِ، مَهما كانَ الثَمَنُ.

جَلَستُ مَعَ الآخرِينَ وَحاوَطتُهُم. حاوَلتُ التحدُّثَ مَعَهُم ومُشاركَتَهُم وَلَو بِالقَلِيلِ مِمّا يَكتُمُ عَلَى أَنفاسِي.
التلَعثُمُ وَالغرابَةُ الشَديدَةُ جُلَّ ما أَحسَستُ بِهِ، فَما جابهتُهُ ليسَ بالمَألُوفِ وَلا المُعتادِعَلَيهِ أَبَداً.

كُلَّما تشَجَّعتُ وبُحتُ بِما دارَ وهامَ فِي خُلدِي…
رَأَيتُ الأَلَمَ يتشكَّلُ عَلَى هيئَةِ أَفعَى مُهِيبَةٍ مُرِيعَةٍ، تُناظِرُنِي بحِدَّةٍ ترتَجِفُ أَوصالِي مِنها.
فِي كُلِّ مَرَّةٍ تَقتَرِبُ مِنِّي وتعتَصِرُنِي بِقُوَّةٍ، تُذَكِّرُنِي بأَنَّ رِحلَةَ شِفائِي لَيسَت بالسُهُولَةِ المرجوَّةِ والَّتِي أَتمنّاها.

لِذا وجَّهتُ أَصابِعَ الاتِّهامِ عَلَى ذاتِي ووصَفتُها بالضعِيفَةِ الهشَّةِ.
جلَدتُها بسَوطِ الاتِّهاماتِ ووضَّحَت لَها : إِن لَم تَفِق مِن غيبُوبَةِ الانهِزامِ هَذه، سَتَبنِي حَولَها قَفَصًا لَن تُكسرَ أَقفالَهُ ما حَيِيَت.

عُدتُ إِلَى مُحاوَلاتِي وَغُصتُ فِيها... صِرتُ أتحَدَّثُ مَعَ هذا وأُناقِشُ ذاكَ.
أخبِرُ أصدِقائِي عَن رَغَباتِي وَما أَشتَهِيهِ؛ كَحُبِّي لِهذا الكِتابِ، ورغبَتِي شِراءَ هذا الفُستانِ، أَكرَهُ هذا اللَّونَ ويَجذِبُنِي ذاكَ.
أطلُبُ المُساعدَةَ مِمَّن يَستَطِيعُها، وَلا أَخجَلُ مِن تِكرارِ طلَبِها.

التقدُّمُ بدَورِهِ كانَ بَطِيئًا، واستَغرَقَنِي الكثِيرُ مِن الوَقتِ والجُهدِ عَلَى حَدّ سَواءٍ.
أَرَدتُ التَّخليَ عَن مِشوارِ الثَلاثِ سِنِينَ ونيلِ قِسطًا مِن الراحَةِ كَما عَزَّزَ لِي هَلاكِي سابِقًا.

لكِن مُجَدَّدًا صفَعَت هذِهِ الوَساوِس، وأبَيتُ الاستِماعَ لَها.

أحسَستُ بالتَّغييرِعِندَما عاوَدتُ لِكِتاباتِي السابِقَةِ واِجتاحَتنِي رَغبَةٌ فِي قِراءَتِها. بانَت الاِنعِكاسات الَّتِي طالَما خَشِيَتها، لأَتلمَّسُها بكُلِّ حفاوَةٍ وذاتٍ مُنفتحَةٍ.
ذاتٌ بِتُّ آنَسُها واشتاق إِلَى وَقعِ صَداها داخِلِي.

ومَعَ كُلِّ كَلِمَةٍ كتبتُها لاحِقًا... الأَذَى وَالأَلَمِ تلاشَى رُوَيداً رُوَيدًا.
كَالغَيمَةِ الثقيلَةِ المُحَمَّلةِ بِماءِ الراحَةِ، كُلَّما عبَّرتُ عَن جزءٍ مِمّا أُخفِيهِ، شَعَرتُ بِها تُمطِرُنِي بالسكِينَةِ، الهُدُوءِ، وَالأَناةِ لِأُكمِلَ مِشوارِي.

لَم تَخفَ علَيَّ مُحاوَلاتُ هَلاكِي فِي أَن يُقاوِمَ للنَجاةَ برُوحِهِ، لكِنِّي قمعتُهُ وأَرخَيتُ دِفاعاتِي، خِداعاً فقَط، ليتسَنَّى لِي حَقنهُ بِمَحالِيلِ الوَداعَةِ، وأُكمِلَ رِحلَةَ عِلاجِي.

مَعَ هذا التحرُّر المُتَواصِلِ، لَم أَعُد تِلكَ الفَتاة الَّتِي تَخشَى العالَمَ مِن حَولِها.
خَرَجتُ مِن ظِلالِ الخَوفِ وَالقَلَقِ.
عتقتُ مِن سُجُونِ الشجنِ وَالغَمِّ وَالأَسَى.
اكتشفتُ أنَّ الهُدُوءَ وَالصمتَ الَّذِي خَيَّمَ عَلَى حَياتِي آنِفاً، لَم يَكُن إِلّا غِطاءً لِخِصالٍ وَفَضائِلَ لَم أَكُن أَعِيها.

ظَنَنتُنِي أتلبَّسُ الهدُوءَ وَأَقرانَهُ، لعدَمِ امتِلاكِي ما أقولُهُ أَو أنبِسُ بِهِ!
لَم أفترِض يَومًا أَنَّ صَمتِي سيعُودُ علَيَّ بِذِي نَفعٍ.

لاحَظتُ قُدرَتِي عَلَى قِراءَةِ مَن حَولِي بكُلِّ يسرٍ وكأَنَّهُم كُتُب مفتُوحَةً.
استَطَعتُ تبيُّنَ مشاعِرِهِم وَما يُضمِرُونَ مِن نظرَةٍ عابِرَةٍ.
عَلِمتُ ما تعنِيهِ أَحاديثُهُم المُختلفَةُ، وأدركَتُ أَنَّها كانَت كَلِماتٍ لا تتجَلَّى لمرتَبَةِ الأحادِيثِ اليومِيَّةِ حَتَّى، بَل كانَت ثقَتُهُم مَن تُؤَهِّلهِم الهَرجَ والبَذخَ فِي لَفظٍ مُفَخَّمٍ زائِفٍ.

أمسَيتُ أكثَرَ وَعيًا لِما حَولِي مِن أَلاعِيبَ واعتِقاداتٍ مُزيَّفةٍ.
رأيتُ أَنّي أحمِلُ مِن العِلمِ والفهمِ والحِكمَةِ، ما يفُوقُ كُلَّ مَن قابلتُهُم وجالستُهُم فِي حَياتِي.

وَقَد ذُهِلتُ مِن قُدرَتِي عَلَى الخِطابَةِ، نِعمَ الخِطابَة!
فَيبدُو أَنَّ مَخزُونِي الَّذي امتَلَأَ مِن مُراقبَتِي بِصَمتٍ، قَد آنَ تَفرِيغُهُ. فَأَضحَيتُ أبحَثُ عَن مناصِبَ وأدوارٍ تتطَلَّبُ الإِلقاءَ والوُقُوفَ أَمامَ جُمهُورٍ ينهَمُ الاستِماعَ، ويُجِلَّ مِن شَأنهِ.

فِي هذِه المَرحَلةِ توَصَّلتُ لقَناعَةٍ تُفضِي بِأَنَّ القُوَّةَ لا تَأتِي بِالصوتِ العالِ أَو الكَلامِ البالِي. أيقَنتُ أَنَّها تَكمُنُ فِي مُحاربَةِ كُلِّ ما يُضنِيكَ بِرويَةٍ ورُؤيَةٍ شفّافةٍ لا تتطَلَّبُ جلبَةَ العالَمِ ودويَّهِ.

مُضِيّ السِنِينَ مدَّنِي بالشَجاعَةِ لأَقِفَ أَمامَ المِرآةِ أَرَى نَفسِي وأُحيِّيها. أنظُرُ إِلَيها دُونَ أقنِعَةٍ أَو مُحاوَلاتٍ للهرَبِ والتسَتُّرِ.
شَعَرتُ لأَوَّلِ مرَّةٍ أَنَّنِي أُواجِه انعِكاسِي الحَقِيقِيَّ دُونَ قُيُودٍ ولا خَجَلٍ.
انقَشَعَت الأَوهامُ وباتَ هُرُوبِي وخَوفِي مِن الحقِيقَةِ بِلا سَبَبٍ يُذكَرُ!
قَبلتُ نَفسِي بِما فِيها مِن عُيوبٍ وشُروخٍ، وتَعلَّمتُ أَنَّ إِنكارَها لَن يَجلِبَ سِوَى الأَذَى، فالتحرُرَ غَيرَ حاصِلٍ إِن لَم أَتَقَبلها.

يُقالُ أَنَّ النُقاطَ وُضِعَت عَلَى الحُرُوفِ لتُجمِّلَها وتَجعَلَها سَهلَةَ الفَهمِ وَالاستِيعابِ. والرِضَى وَالقَناعَةُ كانا كالنِقاطِ فِي مَقامِهِما، بَل هُما المِفتاحُ الَّذِي خَرَجتُ بِهِ مِن رِحلَتِي.

نَظَرتُ إِلَى عَينَيَّ فِي مِرآةِ الحَقِيقةِ، وَلَمَحتُ لَمعَةَ المُناضِلِ فِي مِحجَرِهِما. قابَلتُ المُحاربَةَ الَّتِي خاضَت هذِهِ الحَربَ بِجَراءَةٍ وبسالَةٍ لتَخرُجَ بغنِيمَةٍ لا تُقدَّرُ بثَمَنٍ. فَأَصبَحَ الصَمتُ الَّذِي كانَ يَومًا سَببًا لِأَن تُشَنَّ الحَربَ ضِدِّي، هُوَ الغنِيمَةُ بِذاتِها... مَعَ تَشذِيبٍ لهَيكَلِها لا مَحالَةَ.

انجَلَى انعِكاسِي عَن المِرآةِ وتَلاشَى، لأُمسِكَ بِالقَلَمِ وأَكتُبَ:

بَحثُكَ الدائِمُ عَمَّن يَسمَعُكَ وَيَستَهوِيكَ، بَحثُكَ المُستَمِرُّ عَمَّن يُدارِيكَ وَيُحامِيكَ، ما هِيَ إِلّا عَمَلِيَّةٌ بائِدَةٌ مَصِيرُها الإِحباطُ والاستِكانَةُ. سَتصِلُ لمَرحَلَةٍ تُفضّلُ فِيها العُزلَةُ والوَحدَةُ عَلَى مُجالسَةِ البَشَرِ، سَتَشعُرُ وكَأَنَّ العالَمَ خائِنٌ غَير وافٍ لِوُعُودِهِ. سَتقَعُ ضَحِيَّةُ الاِنهِزامِ وعَيشِ دَورِ المَظلُومِ.

قَد تَجِد ذاكَ الشَخصَ أَو ذاكَ الشَيءَ يَقِفُ بِجانِبِكَ مَرَّةً بَعدَ مَرَّةٍ، وَمِن حِينٍ لِآخَرَ... لكِن لَيسَ أَبداً.

أَلا تَظُنُّ أَنَّ عَلَيكَ البَحثَ عَن السلامِ داخلَكَ بِفَهمِ مَخاوفِكَ ومُفَضَّلاتِكَ؟
ماذا عَن إِيجادِ ذاتِكَ بِنَفسِكَ وتَقبُّلِها كَما هيَ؟
أَلَن تكُونَ أَسعَدَ بصُحبَةِ رُوحِكَ والاِستِماعِ لَها عَلَى اِستِجداءِ المَحَبَّةِ وَالتقدِير مِن أَشخاصٍ لَيسُوا أَعلَى مِنكَ دَرجَةً وَلا أَفضَلَ مِنكَ بِحَسَنَةٍ!

تَذَكَّر بِأَنَّكَ مَخلُوقٌ وُلِدتَ لِاِكتِشافِ ذاتِكَ، قَد تَمُرّ بِعَراقِيل وتَتخبَّطُ بِمُشكِلاتٍ، فَكَما هُنالِكَ عَثَرات تُلزِمُكَ التَقاعُسُ، تيَقَّن بِوُجُودِ استِقاماتٍ واِزدِهاراتٍ تَفرِضُ عَلَيكَ العَزمَ عَلَى الاِستِمرارِ.
كُن مَنبَعًا لِلآمالِ وَالتَوَقُّعاتِ، دَع الشُؤمَ خَلفَكَ، فَلا تَلتَفِت وَلا تَهْتَمَّ.
كُن النُورُ أَينَما حَلَلتَ، اُغدُ كَالشَمسِ صَباحًا وكَالقَمَرِ لَيلاً.
كُن أَنتَ التُربَةَ الحاضِنَةَ لِغَرسٍ نامَ، قَد يُصبِحُ يَوماً ظِلّاً حامٍّ تَستظِلُّ بِهِ يَومَ لا سَنَد حاضِرٍ.

اِسرَح بِأَفكارِكَ بَعِيدًا وَكَأَنَّ حَياتَكَ تَعتَمِدُ عَلَى ذلِكَ، لا تَجعَل مِن الهَمهَماتِ المُحِيطَةِ يَومًا عائِق.
قِف شامِخًا مَعارِضَ لِكُلِّ حَدِيثٍ رادِعٍ، لا هذا وَلا ذاكَ قَد يَأتِي عَلَيكَ أَبَداً بِنافِع.
آمن بِنَفسِكَ، بِقُدرَتِكَ، وَبِبَذرَةٍ زُرَعت فِي فُؤادِكَ دَلالَةً عَلَى اِستِحقاقِكَ.
كُن أَنتَ الوَنِيسُ لِنَفسِكَ، وَدَع رِفقَةَ البَشَرِ وَعِطفهُم إِضافَةً لا جَوهَرًا لِعَيشِكَ.
.
.
.
فَأَنا بَطَلَةُ قِصَّتِي هذِهِ، لم أََحتج لِمَن يَحمِينِي وَيُنقِذُنِي. هَيَّأتُ الطَرِيقَ بِنَفسِي، وَأَزَلتُ العَوائِقَ بِقُدرَتِي وَحدِي.
قَد خَرَجتُ بِعَزِيمَةٍ وَإِرادَةٍ سَتَقِفُ كَالجُندِيِّ المُدافِعِ تَصدُّ أَيَّ أَذىً وَاِنتِكاسٍ قَد يَطالُنِي يَوماً.
وَهَلاكِي هُوَ مَن سَيتَسلَّم دَورَ الجُندِيِّ المُناضِلِ، لِنَقِفَ يَداً بِيَدٍ نُحرِّرُ من بَقِي. فَيَبدُو أَنَّ تَسَلُّقِي للصَرحِ الشاهِقِ قَد كَشَفَ السِتارَ عَمَّ خُفيَّ وَاندلَسَ!